على حقيقتها ـ ومن أوتى ذلك عرف الفرق بين وعد الرّحمن ووعد الشيطان ، وعضّ على الأول بالنواجذ وطرح الثاني وراءه ظهريا.
وقد فسر حبر الأمة عبد الله بن عباس الحكمة بالفقه في القرآن أي معرفة ما فيه من الهدى والأحكام بأسراره وحكمه ، ومن فقه ما ورد في الإنفاق وفوائده وآدابه من الآيات ـ لا يكون وعد الشيطان له الفقر وأمره إياه بالبخل مانعا له من البذل والإنفاق.
والآية الكريمة رافعة شأن الحكمة بأوسع مالها من المعاني ، وهادية إلى استعمال العقل في أشرف ما خلق له.
(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) أي ومن يوفقه الله لهذا النوع النافع من العلم ، ويرشده إلى هداية العقل ، ووجيهه الوجهة الصحيحة ـ فقد هدى إلى خيرى الدنيا والآخرة ، فهو يسخر القوى التي خلقها الله له من سمع وبصر وشعور ووجدان في النافع من الأشياء ، ويعدّها لتنفيذ ما يرغب فيه ، ثم بعدئذ يفوض الأمر إلى بارئه الذي فطره وسوّاه ، ومنه مبدؤه وإليه منتهاه ، وبهذا لا يستسلم لوساوس الشيطان ، ولا يقض مضجعه ما يجده من مكدرات الحياة وآلامها ، ولا ما تسوقه إليه من محنها وأرزائها ، اعتقادا منه أن كل شىء بقضاء الله وقدره ، وبهذا يستريح باله ، وتهدأ ثائرته ، ويجد في قلبه بردا وسلاما لمزعجات الليالى والأيام.
(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ولا يتعظ بالعلم ويتأثر به ، ويجعل الإرادة مصرفة له ، خاضعة لمشيئته ، إلا ذوو العقول السليمة ، والنفوس التي تغوص في بحر الحقائق ، وتستخرج منها ما هو نافع في هذه الحياة ، وبه سعادتها ، وتجعله سلما ترقى به في معارج الفلاح لتصل به إلى خير العقبى ـ حشرنا الله في زمرة أولئك