ثم أبان ما صدر من فرعون عقب مجىء موسى إليه فقال :
(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي فحين جاء موسى بالحجج البالغة الدالة على صدق رسالته ـ فرغون وملأه ، قالوا ما هذا إلا سحر افتريته من عندك ، وانتحلته كذبا وبهتانا ، وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه من عبادة إله واحد فى أسلافنا وآبائنا الذين مضوا من قبلنا.
وهذا تحكيم لعادة التقليد التي أضلّت كثيرا من الناس ، على أنهم قد كذبوا وافتروا ، فإنهم سمعوا بذلك فى عهد يوسف عليه السلام (وما بالعهد من قدم) فقد قال لهم الذي آمن : «يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ ـ إلى أن قال ـ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ».
ولما كذبوه كفرا وعنادا وهم الكاذبون رد عليهم بما أشار إليه بقوله :
(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أي وقال موسى مجيبا فرعون وملأه : ربى أعلم بالمحق منا يا فرعون من المبطل ، ومن الذي جاء بالحق الذي يوصّل إلى سبيل الرشاد ، ومن الذي له العقبى المحمودة فى الدار الآخرة؟.
وفى هذا الأسلوب من أدب الخطاب فى الحجاج والمناظرة ما لا يخفى ، فهو لم يؤكد أن خصمه فى ضلال كما لم ينسبه إلى نفسه بل ردده بينهما وهو يعلم أنه لأيهما ، وعلى هذا النحو جاء الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين بقوله : «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».
ثم علل هذا بأن سنة الله قد جرت بأن المخذول هو الكاذب فقال :
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي إنه لا ينجح الكافرون ولا يدركون طلبتهم ، وفى هذا إيماء إلى أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة ، بل يحصلون على ضد ذلك ، وهذا غاية الزجر والتهديد لكفهم عن العناد.