فالوجوه في عبارة الأسفار محمول على الجمع المنطقى والمراد منه الوجهان الأوّل والثانى. وكلام صاحب المباحث في بيان هذا المسلك هكذا :
الوجه الثالث أن نفرض الكلام في الأمور التي يستحيل عليها القسمة عقلا مثل الباري تعالى والوحدة؛ وأيضا مثل البسائط التي تتألّف عنها المركبات فإنّ الحقائق إذا كانت مركبة فلا بدّ فيها من البسائط ضرورة أنّ كل كثرة فالواحد فيها موجود؛ وحينئذ نقول : العلم المتعلق بها إن انقسم فإمّا أن يكون كل واحد من أجزائه علما أو لا يكون ، ونذكر التقسيم المذكور إلى آخره ، وهذا الوجه أحسن الوجوه الثلاثة. انتهى.
ولا يخفى عليك أنّ اسلوب التحرير كما في المباحث أوفق بإبانة المراد من الأسفار وإن كان تحقيقات صاحب الأسفار في أثناء التحرير ممّا يختصّ هو بها.
اعلم أنّ الوجه الثالث أي ذلك المسلك الآخر جعل في كثير من الصحف العقلية حجة على حدة على تجرّد النفس الناطقة كما سنتلوها عليك ، وغير واحد من أدلة تجرّدها يئول إلى ذلك البرهان الأوّل من الشفاء ، وله شأن عظيم في تجرّدها ، وهو أصل قويم في ذلك بل أقوم البراهين وأمتنها على ذلك.
والاعتراضات الواردة عليها داحضة جدّا كما سيأتي نقل بعضها وردّها.
ثمّ قال صاحب الأسفار بعد تقرير الوجه الثالث ما هذا لفظه :
أقول : لا نسلّم أنّ كل واحدة من النفوس البشرية أمكنها أن يتصوّر حقيقة هذه البسائط ، وأكثر الناس انّما يرتسم في أذهانهم إذا حاولوا إدراك هذه الأمور أشباح خيالية وحكايات متقدرة وأنّى لهم معرفة الباري (جل ذكره) ، والجواهر البسيطة العقلية؟! نعم الحجة المذكورة أصح البراهين على تجرّد النفوس العارفة باللّه والصور المفارقة ، وتلك النفوس قليلة العدد جدا ، وأمّا سائر النفوس فهي مجرّدة عن الأجسام الطبيعية لا عن الصّور الخيالية.
أقول : فالبرهان دال على تجرّد تلك النفوس القليلة العدد جدّا ، والأدلّة الّتي مرّ ذكرها دالة على تجرّدها عن الأجسام الطبيعية أيضا فأدلة تجرّد النفوس البشرية باقية على قوّتها في بقاء النفوس البشرية مع مدركاتها؛ على أنّ إدراك كثير من البسائط