ذواتها عن تلك المحال فعلمنا أنّه لا يلزم من كون الشيء مستقلا باقتضاء حكم من الاحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحل. بل نقول : إنّ جميع الآثار الصادرة عن الأجسام ومباديها قوى وأعراض معدودة في تلك الأجسام وليس لمحال تلك القوى مدخل في اقتضاء تلك الآثار لأنّ محالّها أجسام والأجسام بما هي أجسام يستحيل أن يكون لها أثر في هذه الأحكام المخصوصة فعلمنا أنّ المستقل باقتضاء تلك الأحكام هي تلك الأعراض وحدها ، ثمّ لا يلزم من انفرادها باقتضاء تلك الأحكام استغناؤها عن محالّها فكذلك هاهنا. انتهى كلام الفخر.
وأقول : إنّه أجاد في تقرير الحجة. وأمّا قوله في الاعتراض : «وهل هذا إلّا من باب التمثيلات» فقد دريت آنفا أنّه من باب التمثّل لا التمثيل. وأمّا قوله : «ليس احتياجها إلى محالّها إلّا بمجرّد ذواتها» فمراده أنّ الصور والأعراض مع احتياجها في ذواتها إلى محالّها ليست في فعلها محتاجة إليها بل صدور الفعل منها بمجرّد ذواتها ، وأنت قد دريت آنفا أيضا امتناع صدور الأفعال عن الأمور الحالة في الأجسام من غير توسط تلك الأجسام. وقد حان أن نذكر ما أفاده صاحب الأسفار في الحجة من تقريرها الأمتن ، واستنباطه التجريد الأعم ، وجوابه عن اعتراضات المباحث فهي ما يلى :
الحجة الثامنة أنّ النفس غنية في فعلها عن البدن ، وكل غنى في فعله عن المحلّ فهو غنىّ في ذاته عنه ، فالنفس غنيّة عن المحلّ. أمّا أنّها غنية في فعلها عنه فلوجوه ثلاثة :
أحدها أنّه يدرك ذاتها ، ومن المستحيل أن يكون بينها وبين ذاتها آلة ، فهي في إدراكها ذاتها غنية عن الآلة.
وثانيها أنّها تدرك إدراكها لنفسها وليس ذلك بآلة.
والثالث أنّها تدرك آلتها وليست بينها وبين آلتها آلة أخرى. فثبت أنّ النفس غنية في فعلها عن الآلة والمحل ، وكلّ ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا غنى عن المحلّ؛ وذلك لأن كون الشيء فاعلا متقوّم بكونه موجودا ، فلو كان الوجود متقوما بالمحل لكان الفعل متقوما أيضا به لأنّ الإيجاد فرع الوجود والفعل بعد الذات ، فحاجة الذات والوجود إلى شيء يستلزم حاجة الإيجاد والفعل إليه من غير عكس. ولهذا لا يفعل