لا يقوم إلّا بالجسم. والذي يذكر في الطبيعيات أنّ الجسم بما هو جسم لا يكون سببا لفعل خاص كحرارة أو برودة أو شكل أو حركة وإلّا لكان جميع الأجسام متشاركة فيه ، لا ينافي هذا الحكم إذ المراد بنفي السببيّة عن الأجسام نفى سببيّتها بالاستقلال لا نفى سببيتها مطلقا وإن كانت بالجزئية والدخول حتى لو فرض الحرارة مجرّدة عن الأجسام لكانت فاعلة لهذه السخونة؛ والسواد لو فرض تجرّده عن الأجسام لكانت أيضا قابضا للبصر ، كيف والمسألة أعنى كون تأثير القوى الحالّة في محلّ بمشاركته برهانية قطعيّة لا يتطرق في مقدّماتها شك أصلا.
انتهى كلام صاحب الأسفار. قوله : «هذا البرهان دال على تجرّد النفس عن البدن» يعنى عن البدن الطبيعى ، لا عن البدن مطلقا وذلك لما ثبت بالبراهين القاطعة من أنّ النفس لا تخلو عن أبدان متفاوتة بالكمال والنقص بحسب نشئاتها وهي لا تنافي تجرّدها. وقوله : «ولهذا يتخيل أشياء خارجة عن هذا العالم الطبيعى» وهي كجبل من ياقوت وبحر من زيبق ونحوها. وكلامه هذا إشارة إلى الحجة الأولى التي عوّل عليها أفلاطون الإلهي على تجرّد النفس وقد تقدّم نقلها وبيانها فتذكّر.
وقوله : «واعترض صاحب المباحث على مقدمة هذا البرهان» أى على قوله وكل ما كان كذلك فهو في ذاته أيضا غنى عن المحلّ.
وقوله : «من استقلالها بهذا الحكم» المراد من الحكم هذا ، هو الاحتياج إلى المحلّ.
وأمّا ما في المعتبر من تقرير الحجة والاعتراض عليها ، فالتقرير موجز مفيد ، والاعتراض مدفوع بما يأتى من وجه الدفع. قال في التقرير :
احتجوا على أنّ النفس من الجواهر التي وجودها لا في موضوع لكنها ليست بجسم ... وبأنّ القوى الجسمانية المذكورة لا تدرك ذواتها وآلاتها ، والنفس الناطقة التي هي عقل الإنسان ، تعقل ذاتها ، والبدن الذي هو آلتها ، وسائر أجزائه وأعضائه التي هي آلات خاصّة لكل صنف من أفعالها.
ثمّ أخذ في الاعتراض عليها بقوله :
وأمّا القائلة بأنّ القوى الجسمانية لا تدرك ذواتها وآلاتها ، فجوابها أنّ هذا الإدراك