كتابنا هذا على هذا التجرّد ، كما أنّهما المراد من قوله : «ولو لاه لكان هاتان الحجتان قويتين جدّا». وقد تقدّم ما يجب أن يقرر. وأنت بعد معرفة ما تقدّم هان عليك جواب الشّك المذكور.
تبصرة : أصل هذه الحجة في الحقيقة هي الحجة الثالثة التي أتى بها الشيخ الأجل ابن سينا في الحجج العشر على تجرّد النفس تجرّدا عقليا لأنّ ما فرض من المتضادين فيهما هما الصورتان المعقولتان ، فسياق الحجة فيهما واحد فإذا أخذ فيها المتقابلات على صورها الجزئية فتختص بتجرّد الخيال ، وإذا أخذت على صورها الكلية فتختص بالتجرّد العقلى. قال الشيخ :
لو كانت الصورة المعقولة تحتلّ جسما من الأجسام وتلابسه لامتنع إدراك المتضادّين بادراك واحد معا لأن صورتى الضدين هكذا. وبالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا ولكن الجسم في محلّ هذه الصورة مخالف لهذا فانه مهما حلّ فيه صورة أحد المتقابلين وجب ضرورة أن تحلّ معه صورة المقابل الثاني إذ علم المتقابلات يكون معا فتبيّن أن هذا الجوهر أعنى القابل للعلم غير جسم بل هو جوهر غير جسمانى وذلك ما أردنا أن نبيّن (ص ٨ ، ط حيدرآباد الدكن).
أقول : لفظة «هكذا» في العبارة المنقولة إمّا زيدت في النسخة المطبوعة ، وكان الأصل غير مقروّة بإصابة خرم أو ماء أو آفة أخرى فأضاف المصحّح تلك اللفظة وترك في تجاهها قريبا من نصف سطر بياض؛ ولعلّ عبارة الأصل كانت هكذا : لأنّ صورتى الضدّين المعقولين لا تحلّان جسما معا وبالجملة المتقابلات إلخ؛ أو أنّ العبارة لو تركت بصورتها لكانت تماما ولا حاجة إلى ذلك التقدير فكانت العبارة هكذا : «لأنّ صورتى الضدين وبالجملة المتقابلات لا تحلّ في جسم معا» ولا دغدغة فيها؛ أو أنّ لفظة «هكذا» من عبارة الشيخ بلا توهم سقط ، فحينئذ كان معناها : لأنّ صورتى الضدّين هكذا أي امتنع إدراك المتضادين بإدراك واحد معا ثمّ عمّم الحكم بأنّ ذلك الامتناع لا يختص بالضدين ، فقال : «وبالجملة المتقابلات سواء كانت ضدين أو غيرهما لا تحل في جسم معا». والأخير هو الصواب.