البرهان على تجرّد النفوس الخيالية عن هذا العالم. والفرق بين نفوسها ونفوس خواص الإنسان أنّ هذه النفوس تدرك ذاتها مجرّدة عن جميع الأبعاد والصور والأشكال وغيرها. انتهى.
وأقول : قوله قدّس سرّه «هذا في الحقيقة رجوع عن هذه الحجة إلى الحجة الأولى» الحجة الأولى في الأسفار على تجرّد النفس تجرّدا تاما عقليا ، كانت من طريق إدراك النفس الكليات والطبائع الكلية من حيث عمومها وكليّتها ، وهي بمعزل عن سؤال السائل وجواب المجيب في نفوس الحيوانات الأخر. وانّما نشأ هذا الكلام الغريب منه (رضوان الله تعالى عليه) من كثرة إحاطته بالآراء والأفكار ، وتراكم الحقائق العلمية فيتبادر بعضها مكان آخر ويسبقه ويظهر من القلم.
وأما قوله : «وقد مرّ منا البرهان على تجرّد النفوس الخيالية عن هذا العالم» قد مر في الموضعين من نفس الأسفار أحدهما في الفصل الثاني من الباب الأوّل (ج ٤ ، ص ٩ من الطبع الرحلى) المعنون بقوله : «فصل في بيان تجرّد النفس الحيوانية وعليه براهين كثيرة إلخ» ؛ وثانيهما في الفصل الخامس من الباب الخامس (ج ٤ ، ص ٥٦ ـ ٥٩ ، ط ١) المعنون بقوله : «فصل في دفع ما قيل في أنّ النفس لا تدرك الجزئيات وهي وجوه عامّة ووجوه خاصة إلخ». والعينان الحادية والعشرون والثانية والعشرون من كتابنا سرح العيون في شرح العيون ، وغير واحدة من حجج تجرّد النفس في ذلك.
قال السائل : ليس إذا أمكننا أن نميّز ذاتنا عما يخالطها في الذهن وجب أن يصحّ ذلك في الخارج يعنى هذا التفصيل شيء نفعله ونفرضه في أذهاننا ، وانّ ما عليه الوجود بخلاف ذلك وهذا غير مختص بما إذا أدركنا ذواتنا كلية أو جزئية مخلوطة. ثمّ التحقيق أنّ كل ما يدرك شيئا فله ذلك المدرك كلّيا كان أو جزئيا ، والحمار إذا أدرك ذاته المخلوطة فله ذاته المخلوطة ، فإذن على كل الأحوال الحمار ذاته موجودة له ، وليس ذلك القوّة واحدة فذاته مجرّدة له. ومما يبطل قولكم أنّ المدرك لذات الحمار قوّة غير ذاته ، أن نقول : المدرك لذاته إن لم يكن هو ذاته بل قوّة أخرى ، فإن كانت تلك القوّة في الحمار فذات الحمار في الحمار ، وإن كانت في غيره لم يكن الشاعر هو المشعور به