__________________
قال أبو الحسن علي بن محمد المدائني :
وجّه الحجاج بن يوسف أيوب بن القرّيّة إلى عبد الرحمن بن الأشعث عينا عليه بسجستان ، فلم يلبث أن غمز به ، فأدخل على عبد الرحمن. فقال له : مرحبا بالموصوف عندنا بتزين البلاغة. أأنت ابن القرّيّة؟ قال : نعم. أصلح الله الأمير ، فقال له عبد الرحمن : أخبرني عن أمر. قال : يسأل الأمير عما أحب. قال : أخبرني عن الحجاج ما أمره لديك؟ أعلى محجّة القصد أم في مجانبة الرشد؟ قال : أسألك الأمان قبل ... البيان ، قال : لك الأمان. قال : إن الحجاج على احتجاج في قصد المنهاج ... يمنح ... الظفر ، ويجتنب الكدر ، لا تفظعه الأمور ، وليس فيها بعثور ، في النّعماء شكور ، وفي الضراء صبور فأنهاك أن تقاوله ، وأعيذك بالله أن تطاوله ، وهو على تربة العدل لا تزل به النعل ، ولا يعرنك الجبن ولك الحق ، فإنكم خير داعية وأوثق ، قال له عبد الرحمن : كذبت يا عدو الله ، والله لأقتلنّك. قال : فأين الأمان؟ قال : وكيف الأمان لمن كذب وفجر؟ والله لأقتلنك ، أو لتظاهرني عليه. قال : أصلح الله الأمير. إنما أنا رسول. قال : هو ما أقول لك ، فلما رأى أنه غير منته عنه تابعه وأقام معه يصدر له كتبه إلى الحجاج ، فجمع له عبد الرحمن الناس فأصعده على المنبر ، فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إن الأمر الذي يدعوكم الحجاج إليه لم ينزل من السماء ، ولم تقم به الخطباء ولم تسنه الأنبياء ، ولم تصدر به إلينا من قبله الكتب. ثم نزل ، فلم يلبث أن قتل عبد الرحمن وهزم الحجاج الناس ، فبعث في طلب الفارّ ، فأتي بابن القرّيّة أسيرا ، فلقيه عنبسة بن سعيد ، فقال له : أيوب! قال : أيوب ، فما وراءك؟ قال : ورائي أنك مقتول ، قال : كلا. إني قد أعددت للأمير كلمات صغارا صلابا كركب وقوف عند قضين من حاجة وطرا ، وقد استقبلن سفرا ، قال : هو ما أقول لك. فلما أدخل على الحجاج تجاهل عليه. فقال : من أنت؟ قال : أنا أيوب. قال : يا أيوب ألم تكن في خمول من الدّعة ، وعدم من المال ، وكدر من العيش ، وتضعضع من الهيئة ، ويأس من بلوغ ما بلغت ، فوليتك ولاية الوالد لم أكن لك والدا ، ووليتك ولاية الراجي عندك الخير ولم أرج عندك خيرا ، ووليتك ولاية الجاري باليد ولم يكن لك عندي يد ، وأجرتك بها ثم قمت عند عبد الرحمن فقلت : إن الأمر الذي يدعوكم إليه الحجاج لم ينزل من السماء ولم ولم ، والله لتعلمن يا ابن القرّيّة أن قتلك قد نزل من السماء. قال : أصلح الله الأمير. إني قد أتيت إنسانا في مسك شيطان يتهددني بتخونه ويقهرني بسلطانه ، فنطق اللسان بغير ما في القلب. والنصيحة لك ثابتة ، والمودة لك باقية. قال : صدقت يا عدو الله ، فلم كنت كاذبا وكان قلبك منافقا وأردت كتمان ما كان الله معلنه منك ، وإخفاء ما كان الله يعلمه من سريرتك؟ وكيف علمك بالأرض؟ قال : علمي بها كعلمي ببيتي ، قال : فأخبرني عن الهند قال : بحرها درّ ، وترابها مسك ، وحطبها عود ، وورقها عطر. قال : فأخبرني عن مكة. قال : تمرها دقل ، ولصها بطل ، إن كثر الجند بها جاعوا : وإن قلّوا بها ضاعوا. قال : فأخبرني عن عمان. قال : حرّها شديد ، وصيدها عتيد ، يشدون الجلوف وينزلون الطفوف ، كأنهم بهائم ليس لهم راع ، قال : فأخبرني عن اليمامة. قال : أهل جفاء وجلد وطيرة ونكد. قال : فأخبرني عن البصرة. قال : ماؤها مالح ، وشربها سانح ، مأوى كل تاجر ، وطريق كل عابر. قال : فأخبرني عن واسط. قال : جنّة بين حماة وكنة. قال : وما حماتها وما كنتها؟ قال : البصرة والكوفة ، ودجلة والفرات يحقران شأنها وينقصان الخير عنها. قال : فأخبرني عن الكوفة. قال : ارتفعت عن البحر ، وسفلت عن الشام ، فطاب ليلها ، وكثر خيرها. قال : فأخبرني عن المدينة. قال : رسخ العلم فيها ووضح ، وسناؤها قد طفح. قال : فأخبرني عن مكة. قال : رجالها علماء وفيهم جفاء. ونساؤها كساة كعراة. قال : فأخبرني عن اليمن. قال : أصل العرب. وأهل بيوتات الحسب.