قال : وأنا ابن جهضم ، نا أبو محمّد جعفر بن محمّد بن نصير ، قال : سمعت أبا القاسم جنيدا يقول : مضيت يوما إلى حسين بن المصري ، ومعي دراهم أريد أن أدفعها إليه ، وكان يسكن في براثا (١) وليس له جار إنما هو في صحراء ، وكانت امرأته قد ولدت ، واحتاجت إلى ما يحتاج إليه النساء عند الولادة ، وكان قد رآها وشق عليه ما يرى من حالها ، ففاض ذلك قلبه وجعل يذكر ما ينالها من الشدة والأذى وانقطاع الرفق عنها ، ووجدتها في تلك العزلة ، فأخرجت إليه الدراهم فقلت له : تشتري لها بعض ما تحتاج إليه ، فأبى أن يقبلها مني ، وكان إباؤه عندي ما أبداه إليّ من القول فقال : لست آخذها ولا أقبلها بوجه ولا سبب ، واشتد ذلك عليه ، فقلت له : لا أحسب يسعك ردها لما أخبرتني من حال المرأة ، فأبى أن يأخذها مني بتة.
فأخذت الدراهم ، وكانت في صرّة فرميت بها إلى الحجرة التي فيها المرأة ، وقلت : أيتها المرأة خذي هذه الدراهم لك فاصرفيها فيما تحتاجين إليه ، ثم التفت إليه فقلت له : أنت لم تأخذها كما قلت ، وحرام عليك أن تمنعها ، فسكت ولم يكن له حيلة فيما فعلت ، فانصرفت عنه.
قال : ونا جعفر ، نا الجنيد بن محمّد ، قال : كنت يوما عند حسين المصري ، وكان يأنس بي فقال لي : تعرف أحدا يسكن إليه واعتقدت في نفسي رجلا قد كنت أسكن إليه ولم أبد ذكره ، فقال لي : هو فلان فسماه باسمه فكبر على إصابته لما في سري فعدلت عن ذلك الرجل بنيتي إلى رجل آخر فقال لي : هو فلان فأصاب الثاني ، فكان ذلك عليّ أشد فعدلت بنيتي إلى رجل ثالث ، فقلت له : لا ، فقال لي في الثالثة : هو فلان فأصابه فعظم ذلك عندي ، وكلّ ذلك أدفعه عما يقول بما كنت أعتقده ، ثم افترقنا عن ذلك المجلس ، فعدت إليه بعد أيام فحين لقيني قال لي : يا أبا القاسم أريد أن أقول شيئا ، فقلت له : قل ما تريد ، فقال لي : أنت عندي صادق وقلبي عندي لا يكذبني وقد دفعتني عن أشياء كنت قلتها في المجلس الماضي فأيش السبب في ذلك ، فرأيته ثابتا على ما كان قاله لا يندفع سره عنه فعارضته بالقول وحسن موقع ذلك عنده مني.
__________________
(١) براثا بالثاء المثلثة ، والقصر ، محلة كانت في طرف بغداد في قبلة الكرخ وجنوبي باب محول. (معجم البلدان).