وأخرج أبو عمر في الاستيعاب (١) (١ / ٣٧٢) بالإسناد عن علقمة قال : جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات فقال : جئتك من الكوفة وتركت بها رجلاً يحكي المصحف عن ظهر قلبه ، فغضب عمر غضباً شديداً وقال : ويحك ومن هو؟ قال : عبد الله بن مسعود. قال : فذهب عنه ذلك الغضب وسكن وعاد إلى حاله ، وقال : والله ما أعلم من الناس أحداً هو أحقّ بذلك منه.
فلما ذا يحرم هذا البدريّ العظيم عطاءه سنين؟ ثمّ يأتيه من سامه سوء العذاب وقد خالجه الندم ولات حين مندم متظاهراً بالصلة فلا يقبلها ابن مسعود وهو في منصرم عمره ، ويسأل ربّه أن يأخذ له منه بحقّه ، ثمّ يتوجّه إلى النعيم الخالد مُعرضاً عن الحطام الزائل ، موصياً بأن لا يصلّي عليه من نال منه ذلك النيل الفجيع.
لما ذا فُعل به هذا؟ ولما ذا شُتم على رءوس الأشهاد؟ ولما ذا أُخرج من مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مُهاناً عنفاً ، ولما ذا ضُرب به الأرض فدُقّت أضالعه؟ ولما ذا بطشوا به بطش الجبّارين؟
كلّ ذلك لأنّه امتنع عن أن يبيح للوليد بن عقبة الخالع الماجن من بيت مال الكوفة يوم كان عليه ما أمر به ، فألقى مفاتيح بيت المال لمّا لم يجد من الكتاب والسنّة وهو العليم بهما مساغاً لهاتيك الإباحة ولا لأثرة الآمر بها ، وعلم أنّها سوف تتبعها من الأعطيات التي لا يقرّها كتاب ولا سنّة ، فتسلّل عن عمله وتنصّل ، وما راقه أن يبوء بذلك الإثم ، فلهج بما علم ، وأبدى معاذيره في إلقاء المفاتيح ، فغاظ تلكم الأحوال داعية الشهوات ، وشاخص الهوى الوليد بن عقبة ، فكتب في حقّه ونمّ وسعى ، فكان من ولائد ذلك أن ارتكب من ابن مسعود ما عرفت ، ولم تمنع عن ذلك سوابقه في الإسلام وفضائله وفواضله وعلمه وهديه وورعه ومعاذيره وحججه ، فضلاً على أن يُشكر على ذلك كلّه ، فأوجب نقمة الصحابة على من نال ذلك منه ،
__________________
(١) الاستيعاب : القسم الثالث / ٩٩٢ رقم ١٦٥٩.