فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين أن يمرّوا على ذلك المنظر الفجيع دون أن يمتثلوا حكم الشريعة بتعجيل دفن جثمان كلّ مسلم ، فضلاً عن أبي ذر الذي بشّر بدفنه صلحاء المؤمنين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فنهضوا بالواجب فأودعوه في مقرّه الأخير والعيون عبرى ، والقلوب واجدة على ما ارتكب من هذا الإنسان المبجّل ، فلمّا هبطوا يثرب نقم على ابن مسعود من نقم على أبي ذر ، فحسب ذلك الواجب الذي ناء به ابن مسعود حوباً كبيراً ، حتى صدر الأمر بجلده أربعين سوطاً ، وذلك أمر لا يُفعل بمن دفن زنديقاً لطمّ جيفته فضلاً عن مسلم لم يبلغ مبلغ أبي ذر من العظمة والعلم والتقوى والزلفة ، فكيف بمثل أبي ذر وعاء العلم ، وموئل التقوى ، ومنبثق الإيمان ، وللعداء مفعول قد يبلغ أكثر من هذا.
أيّ خليفة هذا لم يُراعِ حرمة ولا كرامة لصلحاء الأُمّة وعظماء الصحابة من البدريّين الذين نزل فيهم القرآن ، وأثنى عليهم النبيّ العظيم؟ وقد جاء في مجرم بدريّ (١) قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا قال عمر : إئذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه ، فقال : مهلاً يا ابن الخطّاب إنّه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فإنّي غافر لكم (٢). واختلق القوم حديثاً لإدخال عثمان في زمرتهم لفضلهم المتسالم عليه عند الأُمّة جمعاء ، كأنّ الرجل آلى على نفسه أن يُطلّ على الأُمّة الداعية إلى الخير ، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ، بالذلّ والهوان ، ويُسرّ بذلك سماسرة الأهواء من بني أبيه ، فطفق بمراده ، والله من ورائهم حسيب.
والمدافع إن أعوزته المعاذير تشبّث بالطحلب فقال (٣) : حداه إلى ذلك الاجتهاد! ذلك العذر العام المصحّح للأباطيل ، والمبرّر للشنائع ، والوسيلة المتّخذة لإغراء بسطاء
__________________
(١) هو حاطب بن بلتعة حين كتب إلى كفار قريش كتاباً يتنصّح لهم فيه.
(٢) أحكام القرآن : ٣ / ٥٣٥ [٣ / ٤٣٥]. (المؤلف)
(٣) راجع : التمهيد للباقلاني : ٢٢١ [ص ٢٣١] الرياض النضرة : ٢ / ١٤٥ [٣ / ٨٢] ، الصواعق : ص ٦٨ [ص ١١٣] ، تاريخ الخميس : ٢ / ٢٦٨. (المؤلف)