الكبرى (١) (ص ١٣٤) : وأكبر الظنّ أنّ عبد الله بن سبأ هذا ـ إن كان كلّ ما يُروى عنه صحيحاً ـ إنّما قال ما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف ، فهو قد استغلّ الفتنة ولم يُثِرْها ، وأكبر الظنّ كذلك أنّ خصوم الشيعة أيّام الأمويّين والعبّاسيّين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا ، ليشكّكوا في بعض ما نُسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية ، وليشنّعوا على عليّ وشيعته من ناحية أخرى ، فيردّوا بعض أُمور الشيعة إلى يهوديّ أسلم كيداً للمسلمين ، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة! وما أكثر ما شنّع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان!
فلنقف من هذا كلّه موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط ، ولنكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديّا وكانت أُمّه سوداء ، وكان هو يهوديّا ثمّ أسلم لا رغباً ولا رهباً ولكن مكراً وكيداً وخداعاً ، ثمّ أُتيح له من النجح ما كان يبتغي ، فحرّض المسلمين على خليفتهم حتى قتلوه ، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.
هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل ، ولا تثبت للنقد ، ولا ينبغي أن تقام عليها أُمور التاريخ ، وإنّما الشيء الواضح الذي ليس فيه شكّ هو أنّ ظروف الحياة الإسلاميّة في ذلك الوقت كانت بطبعها تدفع إلى اختلاف الرأي وافتراق الأهواء ونشأة المذاهب السياسيّة المتباينة ، فالمستمسكون بنصوص القرآن وسنّة النبيّ وسيرة صاحبيه كانوا يرون أموراً تطرأ ينكرونها ولا يعرفونها ، ويريدون أن تُواجَه كما كان عمر يواجهها في حزم وشدّة وضبط للنفس وضبط للرعيّة ، والشباب الناشئون في قريش وغير قريش من أحياء العرب كانوا يستقبلون هذه الأمور الجديدة بنفوس جديدة ، فيها الطمع ، وفيها الطموح ، وفيها الأثرة ، وفيها الأمل البعيد ، وفيها الهمّ الذي لا يعرف
__________________
(١) المجموعة الكاملة لمؤلّفات طه حسين ـ الفتنة الكبرى ـ : مج ٤ / ٣٢٩.