ثم أفل نجم بني أمية ، وبزغ فجر بني العباس ، فكان الخلفاء في هذا العهد يعملون على تثبيت ملك الإسلام للبلاد المفتوحة قبلهم ، وعلى ضبط النظام في الداخل ، وقمع الخارجين ، كما قاموا بفتح بعض البلاد ، وبغزو بلاد الهند والنّوبة باستمرار.
لكن حدث في هذا العهد ـ أعني العصر الأول (١) لبني العباس ـ خروج (٢) بعض البلاد عن حكمهم ، واستقلالها عن سلطانهم ، فاستأثر عبد الرحمن الداخل الأموي بالأندلس ، وأسس فيها الدولة الأموية ، وكانت حاضرتها قرطبة ، وأسس الأدارسة دولة في المغرب وحاضرتها مرّاكش ثم فاس ، وكذا فعل الأغالبة في إفريقيّة ، وكانت حاضرتهم القيروان ، كما قامت في اليمن الدولة الزّيادية وحاضرتها زبيد ، إلا أن الدولتين الأخيرتين لم تكونا تامة الاستقلال عن الدولة العباسية.
ثم كان العصر الثاني للعباسيين ، الذي ضعفت فيه الخلافة ضعفا شديدا ، واستبد الجند (٣) الأتراك بأمور الحكم ، فلم يبق للخليفة في معظم هذا العهد إلا ذاك المظهر الديني والمركز الصوري ، من إقامة الخطبة له ، ونقش اسمه على السّكة ، ونحو ذلك من ألقاب وشعارات خاوية ؛ بل راح كثير من الخلفاء ضحية لأهواء هؤلاء الجند ، فكم خليفة قتل ، أو ضرب ، أو سملت عيناه ، أو عزل ، أو أهين.
وقد أدى هذا الضعف إلى استقلال الولايات الكثيرة ، وقيام الدول ،
__________________
(١) وينتهي هذا العصر بوفاة الخليفة الواثق سنة ٢٣٢.
(٢) لم تسلم الدولة الأموية من مثل هذا الخروج ، لكن كان ذلك في زمن ضعفها وفي آخر أيامها.
(٣) اعتمد العباسيون في بادىء أمرهم على الفرس ، فمنحوهم المناصب العالية في الدولة ، كالوزارة ، وإمرة الجيوش ، فلما قوي أمرهم ، واشتد نفوذهم ، رأى الخليفة المعتصم أن من السلامة إقصاءهم وعزلهم ، وقد تم له ذلك ، لكنه أبدلهم بالعنصر التركي الذي أصبح في وقت من الأوقات أسوأ حالا من سابقه.
والأمويون قد استراحوا من الفريقين ، وسلموا قبل اللّدغ من الجحرين ، فقدموا العرب دون غيرهم وأسندوا لهم الوظائف الكبيرة.