[حقيقة النسخ]
ولا بأس بصرف الكلام إلى ما هو نخبة القول في النسخ.
فاعلم : أنّ النسخ وإن كان رفع الحكم الثابت إثباتا ، إلّا أنّه في الحقيقة دفع الحكم ثبوتا ، وإنّما اقتضت الحكمة إظهار دوام الحكم واستمراره أو أصل إنشائه وإقراره ، مع أنّه بحسب الواقع ليس له قرار أو ليس له دوام واستمرار ؛ وذلك لأنّ النبيّ الصادع للشرع (١) ربما يلهم أو يوحى إليه أن يظهر الحكم أو استمراره مع
__________________
ـ المقتضي ـ وهو مقدّمات الحكمة ـ ، لا لوجود المانع. أجود التقريرات ١ : ٥٠٦ ـ ٥١٢.
وأمّا المحقّق العراقىّ : فهو ـ بعد ما أورد على المصنّف رحمهالله بأنّ كثرة التخصيص وندرة النسخ متأخّرتان عن زمان ورود الخاصّ ، لأنّهما ناشئان عن الالتزام بالتخصيص دون النسخ في الخصوصات ، فلو التزمنا بالنسخ كان الأمر بالعكس ـ قرّب وجه تقديم التخصيص على النسخ بما قرّب به وجه تقديم أصالة السند والجهة على أصالة الظهور والدلالة. بيان ذلك : أنّه إذا دار الأمر بين التصرّف الدلاليّ والتصرّف الجهتيّ يقدّم الأصل الجهتيّ على الأصل الدلاليّ من جهة أنّه لو لا إحراز أصل صدور الكلام عن المعصوم عليهالسلام لا تنتهي النوبة إلى مقام التعبّد بظهوره ودلالته. وبما أنّ باب النسخ كان من باب التورية والتقيّة في كونه من قبيل التصرّف في الجهة لا من قبيل التصرّف في الدلالة ، وكان الخاصّ من قبيل التصرّف في الدلالة ، فمع الدوران في العامّ بين كونه منسوخا بالخاصّ وكونه مخصّصا به يقدّم الأصل الجاري في جهته ـ وهو أصالة عدم النسخ ـ على الأصل الجاري في ظهوره ودلالته ـ وهو أصالة العموم ـ ، فيقدّم التخصيص على النسخ. مقالات الاصول ١ : ٤٨٦.
وأمّا المحقّق الأصفهانيّ : فذهب إلى تعيّن التخصيص بوجه آخر. وتوضيحه : أنّ كلام الأئمّة الأطهار عليهمالسلام كلّه بمنزلة كلام واحد ، لأنّ الأحكام الشرعيّة بأجمعها ثابتة في الشريعة الإسلاميّة من أوّل الأمر ، وكلام الأئمّة عليهمالسلام بيان لهذه الأحكام الشرعيّة الثابتة من أوّل الأمر ، لا من حين صدورها. وعليه ، فلا تأخّر ولا تقدّم بين هذه الأحكام في ظرف ثبوتها ، وإنّما التأخّر والتقدّم في ظرف بيانها. فإذا العامّ المتأخّر زمانا مقارن للخاصّ في ظرف الثبوت ، وإن كان متأخّرا عنه بيانا. ومن هنا يكون دليل المخصّص كاشفا عن تخصيص الحكم العامّ من الأوّل ، سواء كان العامّ متأخّرا زمانا أو متقدّما كذلك. فلا موجب لتوهّم كونه ناسخا للخاصّ ، بل لا مناص من جعل الخاصّ مخصّصا له. راجع هامش نهاية الدراية ١ : ٦٦٠.
(١) أي : النبيّ المظهر والمبيّن للشرع.