أخبر أبو الحسين عبد الرّحمن بن عبد الله بن الحسن بن أحمد الخطيب ، أنبأ جدي أبو عبد الله ، أنا أبو المعمّر المسدّد (١) بن علي بن عبد الله بن أبي السّجيس ، نا أبو بكر محمّد بن سليمان بن يوسف الربعي ، نا أبو محمّد عبد الله بن ثابت بن يعقوب بن قيس بن إبراهيم العبقسي النجراني القاضي ، نا أبو زيد عمر بن شبة النمري ، نا أبو الحسن علي بن محمّد المدائني ، عن محمّد بن غسان الكندي ، قال :
دخل ضرار بن ضمرة النهشلي على معاوية فقال له معاوية : صف لي عليا يا ضرار ، قال : أو تعفيني من ذلك يا أمير المؤمنين ، قال : أقسمت عليك لتفعلنّ ، قال : أما إذا أتيت فنعم ، كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة على لسانه ، يستوحش من الدّنيا وزهرتها ، ويأنس بالليل ووحشته ، كان طويل الفكرة غزير الدّمعة ، يقلب كفّه ويخاطب نفسه ، وكان فينا كأحدنا يقرّبنا إذا أتيناه ويجيبنا إذا دعوناه ، ونحن مع قربه منا وتقريبه إيانا لا نبتديه لعظمته ، ولا نكلّمه لهيبته ، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم يقدم أهل الدين ويفضل المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا يأيس الضعيف من عدله ، فأقسم بالله لرأيته في بعض أحواله وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وهو قابض على لحيته في محرابه ، يتململ كما يتململ السّليم ، ويبكي بكاء الوالد الحزين ، وهو يقول في بكائه : يا دنيا ، يا دنيا إليّ تعرّضت أم لي تشوقت ، هيهات هيهات ، لا حان جنبك قد بتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك ، عيشك حقير ، وخطرك يسير ، وعمرك قصير ، آه من بعد الدار ، وقلة الزاد ، ووحشة الطريق.
قال : فانهملت دموع معاوية على خدّيه حتى كفكفها بكمّه ، واختنق القوم جميعا بالبكاء ، فقال معاوية : رحم الله أبا الحسن ، فلقد كان كذلك ، فكيف جزعكم عليه يا ضرار؟ قال : جزع من ذبح ولدها في حجرها ، فما تسكن حرارتها ، ولا ترقى دمعتها قال : فقال معاوية : لكن أصحابي لو سئلوا عني بعد موتي ما أخبروا بشيء مثل هذا.
__________________
(١) بالأصل : «المسد» والصواب ما أثبت ، ترجمته في سير الأعلام ١٧ / ٥١٨.