فتحت العرب مصر عرف عمر بن الخطاب رضياللهعنه : ما يلقي أهلها من الغلاء عند وقوف النيل عن حدّه في مقياس لهم فضلا عن تقاصره ، وإن فرط الاستشعار يدعوهم إلى الاحتكار ، وأن الاحتكار يدعو إلى تصاعد الأسعار بغير قحط ، فكتب عمر إلى عمرو يسأله عن شرح الحال ، فأجابه : إني وجدت ما تروي به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا ، والحدّ الذي يروى منه سائرها حتى يفضل عن حاجتهم ، ويبقى عندهم قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا ، والنهايتان المخوفتان في الزيادة والنقصان وهما الظمأ والاستئجار اثنا عشر ذراعا في النقصان وثمانية عشر ذراعا في الزيادة هذا ، والبلد في ذلك الوقت محفور الأنهار معقود الجسور عند ما تسلموه من القبط ، وخميرة العمارة فيه.
فاستشار أمير المؤمنين عمر رضياللهعنه ، عليا رضياللهعنه في ذلك فأمره أن يكتب إليه أن يبني مقياسا وأن ينقص ذراعين من اثني عشر ذراعا ، وأن يقرّ ما بعدها على الأصل ، وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين ، ففعل ذلك ، وبناه بحلوان فاجتمع له بذلك كل ما أراد من حل الإرجاف ، وزوال ما منه كان يخاف بأن جعل الاثني عشر ذراعا أربع عشرة لأن كل ذراع أربع وعشرون إصبعا ، فجعلها ثمانيا وعشرين من أوّلها إلى الاثني عشر ذراعا يكون مبلغ الزيادة على الاثني عشر ثمانيا وأربعين إصبعا وهي الذراعان ، وجعل الأربع عشرة ست عشرة والست عشرة ثماني عشرة والثماني عشرة عشرين.
قال القضاعيّ : وفي هذا الحساب نظر في وقتنا لزيادة فساد الأنهار وانتقاض الأحوال وشاهد ذلك : أن المقاييس القديمة الصعيدية من أوّلها إلى آخرها أربع وعشرون إصبعا ، كل ذراع ، والمقاييس الإسلامية على ما ذكر منها المقياس الذي بناه أسامة بن زيد التنوخي بالجزيرة ، وهو الذي هدمه الماء وبنى المأمون آخر بأسفل الأرض بالبروذات وبنى المتوكل آخر بالجزيرة ، وهو الذي يقاس عليه الماء الآن وقد تقدّم ذكره.
قال ابن عفير (١) عن القبط المتقدّمين إذا كان الماء في اثني عشر يوما من مسرى اثنتي عشرة ذراعا فهي سنة ماء. وإلا فالماء ناقص ، وإذا تمّ ست عشرة ذراعا قبل النوروز فالماء يتم فاعلم ذلك. وقال أبو الصلت : وأما النيل وينبوعه فهو من وراء خط الاستواء من جبل هناك يعرف بجبل القمر ، فإنه يبتدئ في التزايد في شهر أبيب ، والمصريون يقولون : إذا دخل أبيب كان للماء دبيب ، وعند ابتدائه في التزايد يتغير جميع كيفياته ، ويفسد. والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه آجنة يخالطها فيجتلبها معه إلى غير ذلك مما يحتمله فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعا وزاد من السادس عشر إصبعا واحدا كسر الخليج ، ولكسره يوم معدود ، ومقام مشهود ، ومجتمع خاص يحضره العام والخاص ، فإذا كسر فتحت الترع وهي فوهات
__________________
(١) ابن عفير : هو سعيد بن كثير وهو راوية ومؤرخ أخذ عنه محمد بن يوسف الكندي. توفي سنة ٢٢٦ ه.
صبح الأعشى ٢ / ٦٦.