من الأتراك في الانقياد لكتابهم من القبط سواء منهم من أسرّ الكفر ومن جهر به.
وما زال الأقباط بالتاج إلى أن تحدّث مع مخدومه الأمير بيبرس في ذلك ، وخيل له من تلف مال الخراج إذا بطل هذا العيد. فإن أكثر خراج شبرى إنما يحصل من ذلك ، وقال له : متى لم يعمل العيد لم يطلع النيل أبدا. ويخرب إقليم مصر لعدم طلوع النيل ، ونحو ذلك من هتف القول ، وتنميق المكر فثبت الله الأمير بيبرس ، وقوّاه حتى أعرض عن جميع ما زخرفه من القول واستمرّ على منع عمل العيد. وقال للتاج : إن كان النيل لا يطلع إلا بهذا الأصبع فلا يطلع ، وإن كان الله سبحانه هو المتصرف فيه فنكذب النصارى ، فبطل العيد من تلك السنة ولم يزل منقطعا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
وعمّر الملك الناصر محمد بن قلاوون الجسر في بحر النيل ليرمي قوّة التيار عن برّ القاهرة إلى ناحية الجيزة كما ذكر في موضعه من هذا الكتاب ، فطاب الأمير يلبغا اليحياويّ ، والأمير الطنبغا (١) المارديني من السلطان أن يخرجا إلى الصيد ويغيبا مدّة ، فلم تطب نفسه بذلك لشدّة غرامه بهما ، وتهتكه في محبتهما ، وأراد صرفهما عن السفر ، فقال لهما : نحن نعيد عمل عيد الشهيد ، فيكون تفرّجكما عليه أنزه من خروجكما إلى الصيد ، وكان قد قرب أوان وقت عيد الشهيد فرضيا منه بذلك ، وأشيع في الإقليم إعادة عمل عيد الشهيد ، فلما كان اليوم الذي كانت العادة بعمله فيه ركب الأمراء النيل في الشخاتير بغير حراريق ، واجتمع الناس من كل جهة ، وبرز أرباب الغناء وأصحاب اللهو والخلاعة ، فركبوا النيل وتجاهروا بما كانت عادتهم المجاهرة به من أنواع المنكرات ، وتوسع الأمراء في تنوّع الأطعمة والحلاوات ، وغيرها توسعا خرجوا فيه عن الحدّ في الكثرة البالغة ، وعمّ الناس منهم ما لا يمكن وصفه لكثرته ، واستمرّوا على ذلك ثلاثة أيام ، وكانت مدّة انقطاع عمل عيد الشهيد منذ أبطله الأمير بيبرس إلى أن أعاده الملك الناصر ، ستا وثلاثين سنة ، واستمرّ عمله في كل سنة بعد ذلك إلى أن كانت سنة خمس وخمسين وسبعمائة ، تحرّك المسلمون على النصارى وعملت أوراق بما قد وقف من أراضي مصر على كنائس النصارى ، ودياراتهم. وألزم كتاب الأمراء بتحرير ذلك وحمل الأوراق إلى ديوان الأحباس ، فلما تحرّرت الأوراق اشتملت على خمسة وعشرين ألف فدّان كلها موقوفة على الديارات والكنائس ، فعرضت على أمراء الدولة القائمين بتدبير الدولة في أيام الملك الصالح : صالح (٢) بن محمد بن قلاوون وهم : الأمير شيخو العمري ، والأمير صرغتمش ، والأمير طاز ، فتقرّر الحال على أن ينعم بذلك على الأمراء زيادة على إقطاعاتهم ، وألزم النصارى بما يلزمهم من الصغار ، وهدمت لهم
__________________
(١) من مماليك الأمير علاء الدين الجاولي. شاعر مجيد ثم صار أحد أمراء الجند في الشام وتوفي فيها وذلك سنة ٧٤٤ ه. الأعلام ج ٢ / ٧.
(٢) من ملوك الدولة القلاوونية ، ولد سنة ٧٣٨ ه وبويع له بالسلطنة بعد خلع أخيه حسن سنة ٧٥٢ ه ثم خلع وحبس إلى أن مات سنة ٧٦١ ه. الأعلام ج ٣ / ١٩٥.