بالأفشين (١) إلى القبط وقد خلعوا الطاعة ، فأوقع بهم في ناحية البشرود ، وحصرهم حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين ، فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال ، وبيع النساء والأطفال ، فسبى أكثرهم ، وتتبع المأمون كل من يومي إليه بخلاف ، فقتل ناسا كثيرا ، ورجع إلى الفسطاط في صفر ومضى إلى حلوان ، وعاد فارتحل لثمان عشرة خلت من صفر ، وكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يوما. وكان خراج مصر قد بلغ في أيام المأمون على حكم الإنصاف في الجباية أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف دينار وسبعة وخمسين ألف دينار.
ويقال : إن المأمون ، لما سار في قرى مصر كان يبني له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقة والعساكر من حوله ، وكان يقيم في القرية يوما وليلة ، فمرّ بقرية يقال لها : طاء النمل ، فلم يدخلها لحقارتها ، فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهي تصيح ، فظنها المأمون مستغيثة متظلمة ، فوقف لها وكان لا يمشي أبدا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس ، فذكروا له إن القبطية قالت : يا أمير المؤمنين ، نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي ، والقبط تعيرني بذلك ، وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف ، ولعقبي ، ولا تشمت الأعداء بي ، وبكت بكاء كثيرا. فرقّ لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ ، وسأله كم تحتاج من الغنم والدجاج والفراخ والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة ، وغير ذلك مما جرت به عادته ، فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة.
وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس ، وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن داود ، فأحضرت لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ، ولم تكل أحدا منهم ولا من القوّاد إلى غيره ، ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئا كثيرا ، حتى أنه استعظم ذلك. فلما أصبح ، وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشر وصائف مع كل وصيفة طبق. فلما عاينها المأمون من بعد. قال لمن حضر : قد جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناه والصبر فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته. فقالت : لا والله لا أفعل فتأمّل الذهب ، فإذا به ضرب عام واحد كله ، فقال : هذا والله أعجب ، ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك. فقالت : يا أمير المؤمنين ، لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا ، فقال : إن في بعض ما صنعت لكفاية ، ولا نحب التثقيل عليك فردّي مالك بارك الله فيك ، فأخذت قطعة من الأرض وقالت : يا أمير المؤمنين ، هذا وأشارت إلى الذهب ، من هذا وأشارت إلى الطينة التي
__________________
(١) الأفشين : بالأصل لقب على الملك بأشروسنة. وقد لقب به المعتصم بالله حيدر بن كاووس لأنه أشروسني. صبح الأعشى ج ٥ / ٤١٥.