وكان الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب لما استقل بالملك بعد أبيه ، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر ، فأخرج إليه النقابين والحجارين وجماعة من أمراء دولته وعظماء مملكته وأمرهم بهدمه ، فخيموا عنده وحشروا الرجال والصناع ، ووفروا عليهم النفقات وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم ورجلهم يهدمون كل يوم بعد الجهد ، واستفراغ بذل الوسع الحجر والحجرين فقوم من فوق يدفعونه بالأسافين وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوس (١) والأشطان (٢) ، فإذا سقط سمع له وجبة عظيمة من مسافة بعيدة حتى ترجف الجبال ، وتزلزل الأرض ويغوص في الرمل فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجوه ، ويضربون فيه بالأسافين بعد ما ينقبون لها موضعا ، ويثبتونها فيه فيتقطع قطعا وتسحب كل قطعة على العجل حتى يلقي في ذيل الجبل ، وهي مسافة قريبة ، فلما طال ثواءهم ، ونفدت نفقاتهم ، وتضاعف نصبهم ، ووهت عزائمهم كفوا محسورين لم ينالوا بغية بل شوّهوا الهرم ، وأبانوا عن عجز وفشل ، وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة ، ومع ذلك فإنّ الرائي لحجارة الهرم يظنّ أنه قد استؤصل فإذا عاين الهرم ظنّ أنه لم يهدم منه شيء وإنما سقط بعض جانب منه ، وحين ما شوهدت المشقة التي يجدونها في هدم كل حجر ، سئل مقدّم الحجارين فقيل له : لو بذل لكم السلطان ألف دينار على أن تردّوا حجرا واحدا إلى مكانه وهندامه هل كان يمكنكم؟ فأقسم بالله إنهم ليعجزون عنه ولو بذل لهم أضعاف ذلك.
وبإزاء الأهرام مغاير كثيرة العدد كبيرة المقدار عميقة الأغوار لعلّ الفارس يدخلها برمحه ويتخللها يوما أجمع ولا ينهيها لكبرها وسعتها وبعدها ويظهر من حالها أنها مقاطع حجارة الأهرام.
وأما مقاطع حجارة الهرم الأحمر فيقال : إنها بالقلزم وبأسوان ، وعند هذه الأهرام آثار أبنية جبابرة ومغاير كثيرة منقبة ، وقلما ترى من ذلك شيئا إلّا وترى عليه كتابات بهذا القلم المجهول ، ولله در الفقيه عمارة اليمنيّ حيث يقول :
خليليّ ما تحت السماء بنية |
|
تماثل في إتقانها هرمي مصر |
بناء يخاف الدهر منه وكلّ ما |
|
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر |
تنزه طرفي في بديع بنائها |
|
ولم يتنزه في المراد بها فكري |
أخذ هذا من قول بعض الحكماء ، كل شيء يخشى عليه من الدهر إلا الأهرام فإنه يخشى على الدهر منها ، وقال عبد الوهاب بن حسن بن جعفر بن الحاجب ، ومات في سنة
__________________
(١) القلوس : ج. قلس ، وهو الحبل الضخم من ليف أو خوص أو غيرهما تشد به السفن.
(٢) الأشطان : ج. شطن ، وهو الحبل الطويل.