ولكل بطن كاهن يضرب له قبة من أدم معبدهم فيها ، فإذا رأوا استخباره عما يحتاجون إليه تعرّى ، ودخل إلى القبة مستدبرا ، ويخرج إليهم وبه أثر جنون وصرع ، يقول : الشيطان يقرئكم السلام ، ويقول لكم : ارحلوا عن هذه الحلة ، فإنّ الرهط الفلانيّ يقع بكم ، وسألتم عن الغزو إلى بلد كذا ، فسيروا فإنكم تظفرون وتغنمون كذا وكذا ، والجمال التي تأخذونها من موضع كذا هي لي ، والجارية الفلانية التي تجدونها في الخباء الفلانيّ ، والغنم التي من صفتها كذا ، ونحو هذا القول ، فيزعمون أنه يصدقهم في أكثر من ذلك ، فإذا غنموا أخرجوا من الغنيمة ما ذكر ، ودفعوه إلى الكاهن يتموّله ويحرّمون ألبان نوقها على من لم يقبل ، فإذا أرادوا الرحيل حمل الكاهن هذه القبة على جمل مفرد ، فيزعمون أن ذلك الجمل لا يثور إلا بجهد ، وكذلك سيره ويتصبب عرقا ، والخيمة فارغة لا شيء فيها ، وقد بقي في الحدارب جماعة على هذا المذهب ، ومنهم من يتمسك بذلك مع إسلامه.
قال مؤرخ النوبة : ومنه لخصت ما تقدّم ذكره ، وقد قرأت في خطبة الأجناس لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضياللهعنه : ذكر البجة والكجة ويقول عنهم : شديد كلبهم ، قليل سلبهم ، فالبجة كذلك ، وأما الكجة ، فلا أعرفهم انتهى ما ذكره عبد الله بن أحمد مؤرخ النوبة.
وقال أبو الحسن المسعودي : فأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر ، وتشعبوا فرقا وملّكوا عليهم ملكا ، وفي أرضهم معادن الذهب ، وهو التبر ومعادن الزمرّذ ، وتتصل سراياهم ومناسرهم على النجب إلى بلاد النوبة ، فيغزون ويسبون ، وقد كانت النوبة قبل ذلك أشدّ من البجة إلى أن قوي الإسلام ، وظهر وسكن جماعة من المسلمين معدن الذهب ، وبلاد العلاقي وعيذاب ، وسكن في تلك الديار خلق من من العرب من ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان ، فاشتدّت شوكتهم ، وتزوّجوا من البجة ، فقويت البجة ، ثم صاهرها قوم من ربيعة ، فقويت ربيعة بالبجة على من ناواها ، وجاورها من قحطان وغيرهم ، ممن سكن تلك الديار.
وصاحب المعدن في وقتنا هذا ، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة ، بشر بن مروان بن إسحاق بن ربيعة يركب في ثلاثة آلاف ألف من ربيعة وأحلافها من مصر ، واليمن وثلاثين ألف حراب على النجب من البجة في الجحف التحاوية ، وهم الحدارب ، وهم مسلمون ممن بين سائر البجة ، والداخلة من البجة ، كفار يعبدون صنما لهم ، والبجة المالكة لمعدن الزمرّذ يتصل ديارها بالعلاقي ، وهو معدن الذهب ، وبين العلاقي والنيل خمس عشرة مرحلة وأقرب العمارة إليه مدينة أسوان ، وجزيرة سواكن أقل من ميل في ميل ، وبينها وبين البحر الحبشي بحر قصير يخاض ، وأهلها طائفة من البجة تسمى : الخاسة ، وهم مسلمون ولهم بها ملك.