وقال بعض الحكماء : رأيت البرابي وأخذت أتأملها ، فوجدتها مستحكمة على جميع أشكال الفلك ، والذي ظهر لي أنه لم يعملها حكيم واحد بل تولى عملها قوم بعد قوم ، حتى تكاملت في دور كامل. وهو ستة وثلاثون ألف سنة شمسية ، لأنّ مثل هذه الأعمال لا تعمل إلا بالأرصاد ، ولا يتكامل رصد المجموع في أقل من هذه المدّة المذكورة ، وكانوا يجعلون الكتاب حفرا ، ونقرا في الصخور ، ونقشا في الحجارة ، وحلقة مركبة في البنيان ، وربما كان الكتاب هو الحفر إذا كان متضمنا لأمر جسيم ، أو عهدا لأمر عظيم ، أو موعظة يرتجى نفعها أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره.
وقد كتب غير المصريين كذلك كما كتبوا على قبة غمدان ، وعلى باب القيروان ، وعلى باب سمرقند ، وعلى عمود مأرب ، وعلى ركن المستقرّ ، وعلى الأبلق المفرد ، وعلى باب الرها ، وكانوا يعمدون إلى الأماكن الشريفة ، والمواضع المذكورة فيضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس ، وأجدر أن يراها من مرّ بها ، ولا ينسى على طول الدهر.
وقال المسعوديّ : واتخذت دلوكة بمصر البرابي والصور وأحكمت آلات السحر ، وجعلت في البرابي صور من يرد من كل ناحية ودوابهم إبلا كانت أو خيلا ، وصورت فيها من يرد من البحر في المراكب من بحر الغرب ، والشام وجمعت في هذه البرابي العظيمة المشيدة البنيان أسرار الطبيعة ، وخواص الأحجار ، والنباتات والحيوانات ، وجعلت ذلك في أوقات فلكية واتصالها بالمؤثرات العلوية ، وكانوا إذا ورد إليهم جيش من نحو الحجاز ، واليمن عوّرت تلك الصور التي في البريا من الإبل وغيرها فيتعوّر ما في ذلك الجيش وينقطع عنهم ناسه ، وحيوانه وإذا كان الجيش من نحو الشام فعل في تلك الصور التي من تلك الجهة التي أقبل منها جيش الشام ما فعل بما وصفنا. فيحدث في ذلك الجيش من الآفات في ناسه وحيوانه ما صنع في تلك الصور التي من تلك الجهة ، وكذلك من ورد من جيوش الغرب ، ومن ورد في البحر من رومية والشام ، وغير ذلك من الممالك. فهابهم الملوك والأمم ومنعوا ناحيتهم من عدوّهم واتصل ملكهم بتدبير هذه العجوز وإتقانها لزمّ أقطار المملكة وأحكامها السياسية.
وقد تكلم من سلف وخلف في هذه الخواص وأسرار الطبيعة التي كانت ببلاد مصر وهذا الخبر من فعل العجوز مستفيض لا يشكون فيه والبرابي بمصر من صعيدها وغيره باقية إلى هذا الوقت وفيها أنواع الصور مما إذا صوّرت في بعض الأشياء أحدثت أفعالا على حسب ما رسمت له ، وصنعت من أجله على حسب قولهم في الطبائع والله أعلم بكيفية ذلك.
قال : وأخبرني غير واحد من بلاد اخميم من صعيد مصر عن أبي الفيض ذي النون بن