إليك ، ولا نأمن أن يطمع فينا الملوك ، فاعملي لنا شيئا نغلب به من حولنا. فقد كان فرعون يحتاج إليك ، فكيف وقد ذهب أكابرنا ، يعني في الغرق مع فرعون موسى وبقي أقلنا ، فعملت بربا من حجارة في وسط مدينة منف ، وجعلت لها أربعة أبواب كل باب منها إلى جهة القبلة ، والبحر والغرب والشرق ، وصوّرت فيه صور الخيل ، والبغال والحمير والسفن والرجال ، وقالت لهم : قد عملت لكم عملا يهلك به كل من أرادكم من كل جهة تؤتون منها برّا أو بحرا ، وهذا يغنيكم عن الحصن ، ويقطع عنكم مؤنة من أتاكم من كل جهة فإنهم إن كانوا في البرّ على خيل أو بغال أو إبل أو في سفن أو رجالة ، تحركت هذه الصور من جهتهم التي يأتون منها فما فعلتم بالصور من شيء أصابهم ذلك في أنفسهم على ما تفعلون بهم. فلما بلغ الملوك حولهم أنّ أمرهم قد صار إلى ولاية النساء ، طمعوا فيهم ، وتوجهوا إليهم ، فلما دنوا من عمل مصر تحرّكت تلك الصور التي في البربا فطفقوا لا يهيجون تلك الصور بشيء ، ولا يفعلون بها شيئا إلا أصاب ذلك الجيش الذي كان أقبل إليهم مثله إن كان خيلا. فما فعلوا بتلك الخيل المصوّرة في البربا من قطع رؤوسها أو سوقها أو فقء عيونها أو بقر بطونها أثر مثل ذلك بالخيل التي أرادتهم ، وإن كانت سفنا أو رجالة ، فمثل ذلك وكانوا أعلم الناس بالسحر ، وأقواهم عليه وانتشر ذلك فتبادرهم الناس ، وكان نساء أهل مصر حين غرق فرعون وقومه ، ولم يبق إلا العبيد والأجراء لم يصبرن عن الرجال. فطفقت المرأة تعتق عبدها ، وتتزوّجه وتتزوّج الأخرى أجيرها ، وشرطن على الرجال أن لا يفعلوا شيئا إلا بإذنهنّ ، فأجابوهنّ في ذلك فكان أمر النساء على الرجال.
قال يزيد بن حبيب : إنّ نساء القبط على ذلك إلى اليوم اتباعا لمن مضى منهم. لا يبيع أحد منهم ، ولا يشتري إلا قال : استأمر امرأتي فملكتهم دلوكة بنت زبا عشرين سنة. تدبر أمرهم بمصر حتى بلغ صبيّ من أبناء أكابرهم ، وأشرافهم يقال له : دركون بن بلوطس ، فملكوه عليهم فلم تزل مصر ممتنعة بتدبير تلك العجوز نحوا من أربعمائة سنة.
وكلما انهدم من ذلك البربا الذي صوّر فيه الصور لم يقدر أحد على إصلاحه إلا تلك العجوز ، وولدها وولد ولدها ، وكانوا أهل بيت لا يعرف ذلك غيرهم فانقطع أهل ذلك البيت ، وانهدم من البربا موضع في زمان لقاس بن مرنيوس. فلم يقدر أحد على إصلاحه ، ومعرفة علمه وبقي على حاله وانقطع ما كان يقهرون به الناس. وبقوا كغيرهم إلا أنّ الجمع كثير والمال عندهم. فلما قدم بخت نصر بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل ، وسباهم ، وخرج بهم إلى أرض بابل قصد مصر ، وخرب مدائنها ، وقراها ، وسبى جميع أهلها ولم يترك بها شيئا ، حتى بقيت مصر أربعين سنة خرابا ليس فيها ساكن يجري نيلها ويذهب لا ينتفع به ثم ردّ أهل مصر إليها بعد أربعين سنة ، فعمروها ولم تزل مقهورة من يومئذ.