وقلت في نفسي : ما عسى أن أقول له رجل ناء عن بلاد قومه ، وقد تخلّق بأخلاق أهل الشام الجفاة الأغفال (١) ، فأخذتها على أنه قد قصّر بي ، فلمّا توفي معاوية واستخلف يزيد صرت إليه وافدا ، فأقمت أياما ثم قال : يا أبا جهم إنّي بحقّك عارف ، وقرابتك وشرفك ، وإنّ مع حقك علينا لحقوقا ومؤنا لا نستطيع دفعها ، وأنت أولى من عذر ابن أخيه ، هذه خمسون ألف درهم فاقبضها واعذر ، فقلت في نفسي : غلام حدث نشأ مع غير قومه ، وسكن غير بلده ، وهو مع هذا فابن كلبية ، فأي خير يرجى منه؟ ثم أخذتها على أنه قد قصّر بي وانصرفت ، فلما استخلف عبد الله بن الزبير قلت في نفسي : هذا بقية [قريش](٢) البطاح (٣) ، فأتيته وافدا ، فأقمت أياما ثم قال لي : يا أبا الجهم مهما جهلت ، فلم أجهل حقك وقرابتك وشرفك ، غير أن مؤنا علينا وغرما وحمالات (٤) وأمورا يطول شرحها ، ولكن مع ذلك فغير (٥) مخيّب بسفرك (٦) ، هذه ألف درهم ، خذها فاستعن بها على أمورك ، قال أبو الجهم : فقبضتها فرحانا بها ، ثم مثلت بين يديه ، فقلت : يا أمير المؤمنين مدّ الله لقريش في بقائك (٧) ، ودافع لنا عن حوبائك (٨) ولا امتحننا بفقدك ، فو الله لا زالت قريش بخير ما مدّ الله لها في عمرك.
فقال ابن الزبير : جزاك الله عن الرحم خيرا ، فو الله ما قلت هذا لمعاوية وقد أعطاك مائة ألف درهم ، ولا قلته ليزيد وقد أعطاك خمسين ألف درهم ، وقد قلت لنا وإنّما أعطيناك ألف درهم.
فقال : نعم يا أمير المؤمنين ، من أجل ذاك قلت ذاك ، وخفت (٩) إن أنت هلكت لا يلي أمر الناس بعدك إلّا الخنازير ، فأحببت أن يبقيك الله لقريش ، فإنّك على كلّ حال خير لها من غيرك.
أخبرنا أبو غالب الماوردي ، أنا أبو الحسن السّيرافي ، أنا أحمد بن إسحاق ، نا
__________________
(١) الغفل : من لا حسب له ، ومن لا يرجى خيره.
(٢) الزيادة عن م.
(٣) الأصل وم القطاع ، خطأ ، والصواب ما أثبت ، وقريش البطاح هم الذين نزلوا أباطح مكة وبطحاءها (اللسان).
(٤) الغرم : الدين.
والحمالات : واحدتها حمالة كسحابة ، الدية يحملها قوم عن قوم (القاموس المحيط).
(٥) الأصل : فيغير ، والمثبت عن م.
(٦) في م : لسفرك.
(٧) الأصل : وبقائك ، والمثبت عن م.
(٨) الحوباء : النفس (اللسان).
(٩) غير واضحة بالأصل ونميل إلى قراءتها : وجعلت ، وفي م : وجعت ، والتصويب عن المختصر ١٦ / ٢٧.