لفي المقصورة إذ دخل رجل أمغر أصهب السّبال (١) ، عليه جبّة خز حمراء ، وكساء خزّ أحمر ، وجعل القوم يقولون : مرحبا بك يا أبا المغرا ، هاهنا ، فقلت : من هذا؟ قالوا : عثمان بن حيّان المرّي ، ثم دخل رجل طوال ، خفيف العارضين ، حسن اللحية ، عتيق (٢) الوجه ، عليه جبة خزّ خضراء ، وكساء خزّ أخضر ، فقال القوم : مرحبا بك أبا عقبة ، هاهنا ، فقلت : من هذا؟ قالوا : الجرّاح بن عبد الله الحكمي ، إذ قال عثمان : العجب من رجل ولي ثغري العرب : خراسان وسجستان ، فصعد منبرهم ، فقال : أتيتكم محفيا فتركتموني عصيبا ، فانفرث من حمقه ولؤمه كانفراث (٣) الكبد ، فأتانا مخلوعا ، منزوعا ، ولوما ، مهانا.
قال : فأكبّ الجرّاح ساعة ثم رفع رأسه ، فقال : أما تعجبون من رجل ولي ثغري العرب ، فأتى قوما متفرقة أهواؤهم ، متشتتا أمرهم ، فلم يخف سبيلا ، ولم يسفك دما ، ولم يأت منكرا ، ثم استعفى خليفته ، فرجع إلى جنده غير عاجز ، ولا ملوم ، وأحمق وأسير ذاك وآلم وأمضّ لما يكره ، رجل ولي حرم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فشرب فيه الخمر ، فضرب فيه الحدّ ، وغسل منبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم منه ، ثم شتم ابن الخليفة عثمان بن عفّان بما هو أولى منه ، فضرب حدا آخر ، ثم صعد به منبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فطرح منه فاندقت ترقوته ، فأتانا مخلوعا ، منزوعا ، مهانا ، ملوما.
فسمع عمر كلامهما ، فقال : يا غلام ما هذا؟ قالوا : الجراح وعثمان يستبّان ، قال : يا حرسي اخرج فخذ بيد عثمان فاخرجه من المسجد ، وأنت يا حرسي اخرج فخذ بيد الجرّاح فاخرجه من المسجد وقل لهما : الحقا بأهلكما لا في كنف الله ولا في ستره ، وكانا حجاجيين ، فكان عمر يبغضهما.
أخبرنا أبو محمّد بن الأكفاني ، نا عبد العزيز الكتاني ، أنا أبو محمّد بن أبي نصر ، أنا أبو القاسم بن أبي العقب ، أنا أحمد بن إبراهيم ، أنا محمّد بن عائذ ، قال : قال الوليد بن مسلم :
__________________
(١) السبال جمع سبلة وهي الدائرة التي في وسط الشفة العليا ، وقيل : السبلة ما على الشارب من الشعر ، وقيل : طرفه ، وقيل : هي مجتمع الشاربين. وقيل هو ما على الذقن إلى طرف اللحية. (اللسان : سبل).
والأصهب من الشعر : الذي يخالط بياضه حمره. (اللسان : صهب).
(٢) العتق : الكرم ، يقال ما أبين العتق في وجه فلان : أي الكرم ، والعتق : الجمال ، ومنه قولهم : فلان عتيق الوجه أي جميله (تاج العروس بتحقيقنا : مادة عتق).
(٣) أي انتثارها ، يقال : انفرثت كبده : انتثرت (القاموس المحيط).