وأنا أتخوف أن أسقط منه ، حتى أتى بي على وحلة ، فخفت أن يقف بي في تلك الوحلة ، فجعل لا يزداد إلّا شدة الجري في ذلك الوحل حتى خرج منه ، ثم إنه أتى بي إلى عقبة صعبة ، فخفت أن يقوم فرسي ، فما أزداد إلّا سرعة حتى علا بي رأس العقبة ، وأشرفت على المنادي وكأنه جالس على رأس العقبة ، عليه ثياب بياض ، منكس الرأس وهو يقرأ (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)(١) وجعل ينكث الأرض كأنه حزين ، فقلت له : يا هذا ما لي أراك حزينا؟ فقال : أما ترى ما في الأرض؟ فاطّلعت ، فرأيت سوادا متراكبا وضجّة شديدة ، فقلت : ما هذا السواد؟ وما هذه الضجة؟ فقال : أما السواد فهي الفتن ، وأمّا الضّجة فالهرج الهرج (٢) ، قلت : رحمك الله فالمخرج من ذلك؟ قال : أربعة : لسانك ، وبدنك ، وبطنك ، وفرجك ، فأمّا لسانك فتمسكه عن الكلام إلّا من ثلاثة : ذكر دائم ، ورد سلام ، أو حاجة لا بدّ منها ، فأما يديك فتمسكهما عما ليس لك فيه حق ، وتحذر المعاونة بهما ، وأمّا بطنك فلا تدخله إلّا حلال ، وكذلك فرجك ، فإن لم تجد فالقلّة القلّة ، كل الدون والبس الدون ، وأربع الأخذ بهن : الحزم في زمانك ، لا تقل لأحد اذهب ، ولا قم ، ولا كل ، ولا لا تأكل ، ولا اعمل ، ولا لا تعمل ، ولا هذا حلال ، ولا هذا حرام ، قلت : أما الصمت فإني أجهد نفسي فيه ، وأمّا الناس فأعاهد الله على أن لا أقول شيئا من ذلك إلّا أن أكون ناسيا ، وأمّا القلة فمن المطعم واللباس فإنه يصعب علي ، وأرجو [أن](٣) يعين الله تعالى عليه فجعل يقول : يصعب علي أفلا يصعب عليك طول القيام بين يدي الله وعسر الحساب؟ أم والله لو اتقيت لصدقت ، ولو صدقت لاتقيت ، ولو اتقيت لخفت ، ولو خفت لحذرت ، ولو حذرت لجانبت القلّة القلّة ، الخفّة الخفّة ، الصمت الصمت ، الهرب الهرب ، النجاء النجاء ، الوحاء الوحاء ، الباب الباب ، لجوا فيه قبل أن يغلق دونكم ، فتحل بكم الندامة.
كتب إليّ أبو الحسن الفارسي ، أنبأنا أبو بكر المزكي ، أنبأنا أبو عبد الرّحمن السلمي قال : سمعت علي بن سعيد يقول : سمعت أحمد بن عطاء يقول : سمعت أبا صالح يقول : سمعت أبا الحارث يقول : سمع سري من لساني (٤) ثلاثين سنة ، وسمع لساني من سرّي ثلاثين سنة.
__________________
(١) سورة الأنبياء ، الآية الأولى.
(٢) كذا بالأصل وم وز ، وفي المختصر : فالهرج المرج.
(٣) سقطت من الأصل وم وز.
(٤) كذا بالأصل وز ، وفي م : كيساني ، وفوقها ضبة.