فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ، أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ، لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ، وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).
لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة ، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون ، فقال : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) : أي الكفر ، (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) : أضافها إلى النعيم ، لأن النعيم لا يفارقها ، إذ ليس فيها إلا هو ، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا.
وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش : إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ ، فنزلت : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). وقال مقاتل : قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا ، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة ، وإلا فالمشاركة ، فأجاب تعالى : (أَفَنَجْعَلُ) : أي لا يتساوى المطيع والعاصي ، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ. ثم التفت إليهم فقال : (ما لَكُمْ) ، أي : أي شيء لكم فيما تزعمون؟ وهو استفهام إنكار عليهم. ثم قال : (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم ، استفهم عن هيئة حكمهم. ففي قوله : (ما لَكُمْ) استفهام عن كينونة مبهمة ، وفي (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) استفهام عن هيئة حكمهم.
ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال : (أَمْ لَكُمْ) ، أي : بل ألكم؟ (كِتابٌ) ، أي من عند الله ، (تَدْرُسُونَ) أن ما تختارونه يكون لكم. وقرأ الجمهور : (إِنَّ لَكُمْ) بكسر الهمزة ، فقيل هو استئناف قول على معنى : إن لكم كتاب فلكم فيه متخير. وقيل : أن معمولة لتدرسون ، أي تدرسون في الكتاب أن لكم ، (لَما تَخَيَّرُونَ) : أي تختارون من النعيم ، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر ، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة ، قاله الزمخشري وبدأ به وقال : ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو ، كقوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ) (١). انتهى. وقرأ طلحة والضحاك : أن لكم بفتح الهمزة ، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم. وقرأ الأعرج : أإن لكم على الاستفهام.
__________________
(١) سورة الصافات : ٣٧ / ٧٨.