أخلاط الدم والبلغم والصفراء والسوداء ، والنطفة أريد بها الجنس ، فلذلك وصفت بالجمع كقوله : (عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) (١) ، أو لتنزيل كل جزء من النطفة نطفة. وقال الزمخشري : نطفة أمشاج ، كبرمة إعسار ، وبرد أكياس ، وهي ألفاظ مفرد غير جموع ، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضا : نطفة مشج ، ولا يصح أمشاج أن تكون تكسيرا له ، بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما. انتهى. وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أن أفعالا لا يكون مفردا. قال سيبويه : وليس في الكلام أفعال إلا أن يكسر عليه اسما للجميع ، وما ورد من وصف المفرد بأفعال تأولوه. (نَبْتَلِيهِ) : نختبره بالتكليف في الدنيا ؛ وعن ابن عباس : نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة ، فعلى هذا هي حال مصاحبة ، وعلى أن المعنى نختبره بالتكليف ، فهي حال مقدرة لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتليا له بالتكليف في ذلك الوقت. وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد ناقلين له من حال إلى حال فسمي ذلك الابتلاء على طريق الاستعارة. انتهى. وهذا معنى قول ابن عباس. وقيل : نبتليه بالإيجاد والكون في الدنيا ، فهي حال مقارنة. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير الأصل. (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) نبتليه ، أي جعله سميعا بصيرا هو الابتلاء ، ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير ، والمعنى يصح بخلافه ، وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين ، وهما كناية عن التمييز والفهم ، إذ آلتهما سبب لذلك ، وهما أشرف الحواس ، تدرك بهما أعظم المدركات.
ولما جعله بهذه المثابة ، أخبر تعالى أنه هداه إلى السبيل ، أي أرشده إلى الطريق ، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك ، إذ أرشدناه طريق الهدى. وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة. وقال السدي : سبيل الخروج من الرحم. وقال الزمخشري : أي مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعا ، وإذ دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع كان معلوما منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة. انتهى ، وهو على طريق الالتزام. وقرأ الجمهور : (إِمَّا) بكسر الهمزة فيهما ؛ وأبو السمال وأبو العاج ، وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك : بفتحها فيهما ، وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب ، وهي التي عدها بعض الناس في حروف العطف وأنشدوا :
يلحقها إما شمال عرية |
|
وإما صبا جنح العشي هبوب |
__________________
(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٧٦.