على أن الإنسان لا يحلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه ، فقال : وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر.
ثم قال الزمخشري : بعد كلام طويل : فإن قلت : أين نظير قوله : (وَأَنْتَ حِلٌ) في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله عزوجل : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ، واسع في كلام العباد ، تقول لمن تعده الإكرام والحبا : وأنت مكرم محبو ، وهو في كلام الله أوسع ، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة ، وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال ، وأن تفسيره بالحال محال. إن السورة بالاتفاق مكية ، وأين الهجرة من وقت نزولها؟ فما بال الفتح؟ انتهى. وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين ، وقد ذكرنا أولا أنها جملة حالية ، وبينا حسن موقعها ، وهي حال مقارنة ، لا مقدرة ولا محكية ؛ فليست من الإخبار بالمستقبل. وأما سؤاله والجواب ، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو ، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات ، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال ، بل يكون للماضي تارة ، وللحال أخرى ، وللمستقبل أخرى ؛ وهذا من مبادئ علم النحو. وأما قوله : وكفاك دليلا قاطعا إلخ ، فليس بشيء ، لأنا لم نحمل (وَأَنْتَ حِلٌ) على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا ، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة ، وهو وقت النزول كان مقيما بها ضرورة. وأيضا فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح ، وقد حكى الخلاف فيها عن قول ابن عطية ، ولا يدل قوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك ، ولا على أنك تستحل فيه أشياء ، بل الظاهر ما ذكرناه أولا من أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين ، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى ، وشرفها بحضور رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإقامته فيها ، فصارت أهلا لأن يقسم بها.
والظاهر أن قوله : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) ، لا يراد به معين ، بل ينطلق على كل والد. وقال ابن عباس ذلك ، قال : هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان. وقال مجاهد : آدم وجميع ولده. وقيل : والصالحين من ذريته. وقيل : نوح وذريته. وقال أبو عمران الحوفي : إبراهيم عليهالسلام وجميع ولده. وقيل : ووالد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وما ولد إبراهيم عليهالسلام. وقال الطبري والماوردي : يحتمل أن يكون الوالد النبي صلىاللهعليهوسلم لتقدم ذكره ، وما ولد أمته ، لقوله صلىاللهعليهوسلم : «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد» ، ولقراءة عبد الله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٢) ،
__________________
(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٣٠.
(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦.