وهو أب لهم ، فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده ، مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت : رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن ولده. أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه ، وحرم أبيه إبراهيم ، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام ، وبمن ولده وبه. فإن قلت : لم نكر؟ قلت : للإبهام المستقل بالمدح والتعجب. فإن قلت : هلا قيل : ومن ولد؟ قلت : فيه ما في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) (١) : أي بأي شيء وضعت ، يعني موضوعا عجيب الشأن. انتهى. وقال الفراء : وصلح ما للناس ، كقوله : (ما طابَ لَكُمْ) (٢) ، (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣) ، وهو الخالق للذكر والأنثى. انتهى. وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير : المراد بالوالد الذي يولد له ، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له. جعلوا ما نافية ، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى ، كأنه قال : ووالد والذي ما ولد ، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) : هذه الجملة المقسم عليها. والجمهور : على أن الإنسان اسم جنس ، وفي كبد : يكابد مشاق الدنيا والآخرة ، ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره ، إما في جنة فتزول عنه المشقات ؛ وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده. وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد : (فِي كَبَدٍ) معناه : منتصب القامة واقفا ، ولم يخلق منكبا على وجهه ، وهذا امتنان عليه. وقال ابن كيسان : منتصبا رأسه في بطن أمه ، فإذا أذن له بالخروج ، قلب رأسه إلى قدمي أمه. وعن ابن عمر : يكابد الشكر على السرّاء ، ويكابد الصبر على الضراء. وقال ابن زيد : (الْإِنْسانَ) : آدم ، (فِي كَبَدٍ) : في السماء ، سماها كبدا ، وهذه الأقوال ضعيفة ، والأول هو الظاهر. والظاهر أن الضمير في (أَيَحْسَبُ) عائد على (الْإِنْسانَ) ، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أن لا يقاومه أحد ، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده. يقول على سبيل الفخر : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) : أي في المكارم وما يحصل به الثناء ، أيحسب أن أعماله تخفى ، وأنه لا يراه أحد ، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء؟ بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر منه من عمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء. وقيل : الضمير في (أَيَحْسَبُ) لبعض صناديد قريش. وقيل : هو أبو الأسد أسيد بن كلدة ، كان يبسط له الأديم العكاظي ، فيقوم عليه ويقول : من أزالني
__________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٦.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٣.
(٣) سورة الليل : ٩٢ / ٣.