هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) (١) ، وكان سيد الأتقين رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ذكر تعالى هنا نعمه عليه. وقرأ الجمهور (ما وَدَّعَكَ) بتشديد الدال ؛ وعروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة : بخفها ، أي ما تركك. واستغنت العرب في فصيح كلامها بترك عن ودع ووذر ، وعن اسم فاعلهما بتارك ، وعن اسم مفعولهما بمتروك ، وعن مصدرهما بالترك ، وقد سمع ودع ووذر. قال أبو الأسود :
ليت شعري عن خليلي ما الذي |
|
غاله في الحب حتى ودعه |
وقال آخر :
وثم ودعنا آل عمرو وعامر |
|
فرائس أطراف المثقفة السمر |
والتوديع مبالغة في الودع ، لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. (وَما قَلى) : ما أبغضك ، واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلى ، وطيىء تعلى بفتح العين وحذف المفعول اختصارا في (قَلى) ، وفي (فَآوى) وفي (فَهَدى) ، وفي (فَأَغْنى) ، إذ يعلم أنه ضمير المخاطب ، وهو الرسول صلىاللهعليهوسلم. قال ابن عباس وغيره : أبطأ الوحي مرة على الرسول صلىاللهعليهوسلم وهو بمكة ، حتى شق ذلك عليه ، فقالت أم جميل ، امرأة أبي لهب : يا محمد ما أرى شيطانك إلا تركك؟ فنزلت. وقال زيد بن أسلم : إنما احتبس عنه جبريل عليهالسلام لجر وكلب كان في بيته.
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) : يريد الدارين ، قاله ابن إسحاق وغيره. ويحتمل أن يريد حالتيه قبل نزول السورة وبعدها ، وعده تعالى بالنصر والظفر ، قاله ابن عطية اهتمالا. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف اتصل قوله : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) بما قبله؟ قلت : لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك ، وأنك حبيب الله ، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، ولا نعمة أجل منه ، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل ، وهو السبق والتقدم على جميع أنبياء الله ورسله ، وشهادة أمته على سائر الأمم ، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته. (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ، قال الجمهور : ذلك في الآخرة. وقال ابن عباس : رضاه أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. وقال أيضا : رضاه أنه وعده بألف قصر في الجنة بما تحتاج إليه من النعم والخدم. وقيل : في الدنيا بفتح مكة وغيره ، والأولى أن هذا موعد شامل لما أعطاه في
__________________
(١) سورة الليل : ٩٢ / ١٧.