ربك ، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك. وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس ، أي ليس لك رب غيره. ثم جاء بصفة الخالق ، وهو المنشئ للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أربا. أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها ، ولم يذكر متعلق الخلق أولا ، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق ، فاقتصر أو حذف ، إذ معناه خلق كل شيء.
ثم ذكر خلق الإنسان ، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه ، وهو أشرف. قال الزمخشري : أشرف ما على الأرض ، وفيه دسيسة أن الملك أشرف. وقال : ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان ، كما قال : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ) (١) ؛ فقيل : الذي خلق مبهما ، ثم فسره بقوله : خلق تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته ، انتهى. والإنسان هنا اسم جنس ، والعلق جمع علقة ، فلذلك جاء من علق ، وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به ، ولم يذكر أصلهم آدم ، لأنه ليس متقررا عند الكفار فيسبق الفرع ، وترك أصل الخلقة تقريبا لأفهامهم.
ثم جاء الأمر ثانيا تأنيسا له ، كأنه قيل : امض لما أمرت به ، وربك ليس مثل هذه الأرباب ، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص. والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم ، إذ كرمه يزيد على كل كرم ينعم بالنعم التي لا تحصى ، ويحلم على الجاني ، ويقبل التوبة ، ويتجاوز عن السيئة. وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال : (الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) ، فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على أفضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولو لا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به. ولبعضهم في الأقلام :
ورواقم رقش كمثل أراقم |
|
قطف الخطا نيالة أقصى المدى |
سود القوائم ما يجد مسيرها |
|
إلا إذا لعبت بها بيض المدى |
انتهى. من كلام الزمخشري. ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي
__________________
(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ١ ـ ٣.