النموذج الخاص ببلاد الرافدين في بغداد فضلا عن ذلك ، في عين المكان ، بغداد المزدحمة بالبشر والمحاطة بسورين مضاعفين ، والخاضعة لحراسة مشددة فرضها قهر الخليفة ثم السلطان. لكن ما يهمنا حقا هو إبراز نمطين مثاليين للمدينة ، انطلاقا من التجربة المصرية وتجربة بلاد الرافدين. الأولى كنمط المدينة المنفتحة الهندسية المتحررة في مظهرها ، البسيطة في تخطيطها ، والأخرى كنمط المدينة المغلقة المتشعبة الملتوية (١). لكن ألا تخفي هذه الرؤية التي تجسمت على هذا النحو في موقف مؤلفين من الغرب ، جانبا من «الثنائية» ، وتمجيدا للهلينية يعتمد المركزية العرقية بصورة مقنعة وبواسطة تمجيد الحضارة المصرية؟ على أن هذا لا يمنعنا من المقارنة الموحية بين الكوفة الهندسية الأولى الحرة المتفتحة ، وبين بغداد ربيبة الكوفة إلى حد بعيد ، وحتى الكوفة العباسية الحبيسة في أسوارها والتي تسلط عليها القمع والارهاب. وبذلك ينبغي الرجوع كثيرا إلى الوراء ، أي إلى أقدم طبقات التقليد المدني ، لا أن نقابل فقط بين الهلينية والاستشراق (المقصود هنا المبدأ الشرقي لا علم الاستشراق) ، كما يقع في أغلب الأحوال.
بابل
كانت بابل التجسيم الأعلى لنموذج بلاد الرافدين ، فقد أجملت مجمل المكاسب الحضارية للشرق المركزي في صفائه ، إن صح القول ، فبدت حلقة حاسمة للبحث عن التسلسلات. ينبغي استنطاق بابل في ذاتها وفي ما يدور في فلكها أيضا ، أي سبار ونبور وأرك ، وبعيدا كركوك ، وحتى المدن الأشورية مثل أشور وخرسباد (٢). على أن بابل الطبيعية ذاتها تبقى المحور المشع ضمن هذه الكوكبة. وفي العصر التاريخي الذي ظهر خلاله نبوخذ نصّر ، يتجه التفكير إليها عندما يدور الحديث عن الحاضرة الشرقية الأصلية. كانت مربعة الشكل ـ مثل الكوفة والبصرة على الأقرب ـ واسعة الشوارع المرتبة. وكانت تستخدم اللبن والآجر (٣) ، كانت أيضا المدينة ـ المعبد ، حيث يقوم سجيل بدور أساسي ، لها أراضيها الخاصة ومخازن حبوبها (لنذكر دار الرزق بالكوفة) ، وقاعدتها العقارية التي لم تكن بابل
__________________
(١) روج وولي Wooley لفكرة أن الحاضرة في الشرق الأوسط اليوم ، في نواتها التقليدية ، تعكس بنية المدينة القديمة في بلاد الرافدين. وقد شاعت عند غيره ، منهم اوبنهايم. ولم يعمل فيرث إلا على اقتباسها لافراغ المدينة العربية من كل أصالة خلاقة. وبالنسبة لإرنست بلوخ Ernst Bloch ، يمثل المعمار الفرعوني أصل ونمط البعد الهندسي في نقاوته الذي يصل إلى الكمال في الأهرام ، وهو ينعته ب «يوطبيا بلّور الموت» ويعارضه بال «يوطبيا الغوطية» التي تمثل شجرة الحياة :. Le Principe Espe ? rance, trad. fr., II, Paris, ٢٨٩١, pp. ٢٣٣ ـ ٥٣٣.
(٢) Pigulevskaja, pp. ١٣ ـ ٣٣, ٩٣ ـ ٧٤; Roztovtzeff, I, pp. ٨٧ ـ ٩٧.
(٣) Altheim, Weltgeschichte Asiens, I, p. ٣٥١; M Rutten, pp. ٤٣ ff.