إن هذا الانتشار الذي طرأ على كل مكان من الشرق المركزي لعناصر مقتبسة من بابل ، هو ظاهرة رئيسة تسمح بالبحث عن بقائها في المدينة الاسلامية كما في الحضارة التي أفرزتها.
ومن المعلوم أن العصر الهلنستي تسبب في تدهور بابل. فقد فقدت بابل دورها كعاصمة وحاضرة مركزية (١) عند نشوء سلوقية. ونهبها أنتيغون في ٣١٥ ـ ٣١٤ ق. م ، وكان النهب الثاني بعد قليل في حكم سلوقوس الأول (٢).
فأصبحت بابل مدينة مستضعفة مفككة ، وفقدت قوتها المالية والعقارية لكنها كانت من أندر الحواضر المهمة التي نجت من نظام المدينة اليونانية (Polis) ، فبقيت مدينة شرقية صرف. كانت سنة ٢٧٥ ق. م. هي السنة التي نقل خلالها سكان بابل بكليتهم إلى سلوقية ، فكان عاما حاسما في تاريخ مدن بلاد الرافدين (٣). فقدت بابل سكانها ، كما أنها فقدت قاعدتها الزراعية لأن ما أقطع لها من أراض وكذلك لبورسبا وكوثى إنتزع منها بأمر ملكي. عندئذ تصاعد النواح الأكبر لبابل. ذلك أن موتها الفيزيقي الذي ترتب عن هذا الأمر لم يكن موتا طبيعيا ، ولا تحطيما ذاتيا ، بل اغتيالا نفذه السلوقيون. هذا الاغتيال وقع في سبيل الحفاظ على الهيمنة الامبراطورية المستندة إلى الهلينية أكثر مما كان عملا تحقق باسم الهلينية ذاتها. وعادت إليها الحياة قليلا بعد ذلك ، في عصر أنطيوكوس ابيفانوس ، لكن بالخضوع المؤسساتي للنموذج اليوناني ، واستقرار جالية إغريقية مقدونية ، وتشييد مسرح ومقر لتعاطي الرياضة ، وتعيين وال (Strategos) على رأسها (٤). الواقع أن أبيفانوس كان يريد إدماج بابل في الهلينية ، درءا لتصاعد الروح الشرقية أو الإشراق على صعيد الامبراطورية كافة ، وقد بدأ يغمر العنصر الهليني. وكان لبابل من الحركية ما جعل الهيلينية تصبح مستوعبة سريعا جدا من طرفها بعد أن كانت مستوعبة في هذا المجال. فتلقب الإغريق بأسماء شرقية وتعودوا بعوائد بابلية واستعملوا أشكال العقود والمعاملات المصرفية البابلية ، بينما كانوا هم العنصر الديناميكي المتبوع في المواطن الأخرى ، أي في شبكة المدن الهلينية التي أقامها السلوقيون. وهكذا ، فإن بابل التي كانت في النزع الأخير ، وكادت أن
__________________
الآشوري لبلاد الرافدين العليا ونموذج السهل ، على الصعيد الطبوغرافي الصارم ، بمعنى أن نقابل آشور بأور :. Ouvr. cit., pp. ٢٤١ ـ ٣٤١. لكنه استثنى وضع بابل في العصر الكلداني.
(١) Pigulevskaja ,op.cit.,p.٣٣.
(٢) Ibid.,p.٤٣.
(٣).Ibid.,p.٦٣ يبدو أن Rostovtzeff لم يطلع بما يكفي على هذا الموضوع ، فاقتصر على إبراز دور حماية معابد جهة بابل ، الذي قام به السلوقيون :.Ouvr.cit.,I ,pp.٥٣٤ ـ ٦٣٤
(٤) The Cambridge Ancient History ,VII ,p.٨٨١.