تلفظ أنفاسها ، والتي غرّبها عن ذاتها نظامها الجديد ، حققت نصرا ثقافيا على الهلينية ، في انتظار أن تظهر من جديد القوى الإشراقية المدحورة في كل مكان ، من الشام إلى خوزستان ، حين صارت الامبراطورية في حالة تفكك.
هناك إذن في روح بابل شيء يشبه الاستماتة الفائقة ، وقدرة ممتازة على المقاومة. فماذا صارت هذه الروح حين مرت بها التغييرات التي خضع لها الشرق المركزي؟ أودع ميراث بابل الثقافي في بلاد بابل ذاتها ، وانتشر واستبطن في بلاد الرافدين كافة ، وتقدم حتى شمال الشام ، ولا بد أنه بقي بصفة خاصة في المركّب المدني الشامل لسلوقية والمدائن ، حيث أن سكانها نقلوا نقلا واسعا ، وحملوا معهم حضارتهم كلها. كانت سلوقية المؤسسة الهلينية الكبرى في بلاد الرافدين (١). وصارت حقا حاضرة للجزء الشرقي من الامبراطورية ، مفسحة صدرها لكل تيارات الشرق الكبرى. أما طيسفون (المدائن) ، فقد كانت إنشاء بارثيا ، ورمزا لنهضة العالم الإيراني ، لكنها ارتبطت لا محالة بسلوقية التي نقلت إليها بقوة الاتصال أوسع جزء من ارثها خصوصا حين مالت الكفة في العصر الساساني لصالح طيسفون التي أصبحت القطب التمديني ومركز القرار. فمن البديهي أن قابلية بابل للخلق استبقيت بالمدائن وفي المقام الأول ، تقاليدها في الهندسة المعمارية والتمصير ، لكن كل هذا بصفة متسترة عنيدة ، ولعل تشريق الفرس تشريقا عميقا ـ أو إعادة تشريقهم؟ ـ ينبغي البحث عنه عبر هذه الظاهرة ، وكذلك انتقال هذا الطابع إلى الفاتح العربي. كانت إقامة الجيش مدة عام بالمدائن (٢) بمثابة تجربة للحياة المدنية قطعا ، واتصال أول مديد بنمط المدينة ـ الحاضرة حيث كانت تتجاوز عناصر بابلية وهلينية وفارسية. لكنها كانت فترة قصيرة جدا ، وكانت المدينة مستوفاة إلى درجة قصوى لا تسهل استنباط التصور اللازم لإنشاء حاضرة جديدة : فتسربت المؤثرات البابلية بكيفية أكثر بطئا وغموضا في بناء الحضارة الاسلامية بالكوفة والبصرة وبغداد في وقت لاحق. ذلك أن المصادر تتحدث بوضوح عن ممصرين من الحيرة أو من الفرس (٣) في هذه المرحلة الأولى. لكن إذا قبلنا أن إرث بابل إندمج بالتقاليد الساسانية ، في طيسفون ذاتها ، فذلك علامة على اتجاه يمكن أن يظهر بوضوح أكبر في الرقعة الجغرافية التابعة لبابل القديمة ، بالكوفة والحيرة. فترتب عن هذا الأمر أصلا تلك البنية المربعة الشكل في مخطط الكوفة التي ليست بالمستطيلة كما في سلوقية بهرسير ، ولا بالمستديرة كما في طيسفون.
__________________
(١) Ibid., VII, p. ٧٨١; Rostovtzeff, II, p. ٧٢٤; Pigulevskaja, p. ٢٦.
(٢) أو ثمانية عشر شهرا حسب بعض الروايات : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٢ ـ ٤٣.
(٣) روذبة أو روذبه كان من همذان : الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٨.