يخضع لعقلانية هندسية. وتنطبق هذه الدوافع الثلاثة بصورة فريدة على العرب الذين خرجوا من بلادهم وبنوا الكوفة الأولى : التهيؤ للتقبل ، وصورة المعسكر (لا بالمعنى الذي جعل المعسكر يتحول من ذاته إلى مدينة ، كما رأينا ذلك) ، وجدة الإنشاء. لم يكن مخططوهم يشعرون أنهم كانوا يصنعون البابلي الجديد والهليني والفارسي والروماني ، لكنهم غرفوا ، غير واعين ، من تراث أفكار دون أن يكون لهم تصور مرئي واضح. ولربما يتم استيقاظ الجانب الأكثر مسخا من الماضي ويتم رجوع العتيق إلى الوجود ، حين يخلق الجديد إذ هي فرصة لا تعوض بالنسبة إليه ، ليرجع بقوة. وهكذا حدث وثوب فوق العصور الساسانية في اتجاه بابل وربما في اتجاه الهلينية ، وقد امتزجتا امتزاجا مبهما ضمن تراث مشترك. هكذا فعل الرومان الذين خطوا مدنهم بالمحراث تخطيطا شعائريا (١) ، إذ كانوا يرددون دون علم به ، تقليدا أتروسكيا نابعا من أعماق الجذور الشرقية لهذا الشعب (٢). فمن الممكن أن احتفظت الجزيرة العربية بفضل اتصالها بالشرق بمحاولات عتيقة تخلى الشرق نفسه عنها ، وذلك بالضبط لوضعيتها الهامشية عنه.
إن الفرس والرومان شعبان وريثان. لقد اعتمدا أصلا نماذج مهيئة في بوتقة الحضارات التي خضعت لهما ، لكن دون أن يخلو ذلك من زاد أصيل. من هنا انتشار هذه النماذج انتشارا ممتازا ، ومن هنا حدثت تركيبات وانحرافات. لكن لم يجر اللحاق بالركب أبدا. حين صمم الفرس القاهندز ـ يعني القلعة المركزية المحصنة ـ وأبدعوا فيها ، فقد توسعوا بذلك في النموذج العتيق الآشوري ـ البابلي ـ الجديد في السوس كما في همذان ، وفي اصطخر كما في بابل التي جددوا بناءها ، لكنهم عدلوا في طيسفون وفي درابجرد عن الشكل المربع لصالح الشكل المستدير المستمد من إرثهم بالذات ، أو من ارث «الأورارتو» ، أو لعل الأمر تعلق برجوع النمط المصري أو الشامي الأناضولي. وكذلك الرومان فإنهم روجوا في الشرق نموذج المدينة الهلينية التي صارت مثالهم الأعلى (٣). لكنهم لم يوفقوا أبدا بأن يجعلوا من روما حاضرة مكتملة نظيفة مضاءة (٤) متسقة ، كما كانت أنطاكية. إن انتظام المدن الرومانية خارج إيطاليا مقتبس من التقليد الهلينستي في الشرق ، ومن التقليد الأتروسكي في العالم الغربي. وعلى هذا النحو لم يقم الفرس والرومان كل في ميدانه بعمل ابتكاري
__________________
(١) Mumford ,p.٧٦٢.
(٢) Le ? on Home ,p.٤٢ ؛ ويرى ارنست بلوخ «أن المعمار الرّوماني أخذ عن الأتروسك الصبغة الهندسية الكوسمية .. وبعد قرن من Vitruve رجع المعمار الروماني إلى التراث الهندسي الكوسمي للأتروسك» :. Ernest Bloch, Ouvr. cit., p. ١٤٣.
(٣) Mumford ,pp.٦٥٢ ff.
(٤) Le ? on Homo ,p.٢٨٥.