أساسي ، بل كان عملهم تركيبيا وبصورة ما عملا تشويهيا للنموذجين الأصليين الشرقي والهلينستي.
لكن ينبغي الاعتراف أنه لم يقع في الوضع الروماني ، إلا نادرا ، فرض مخطط السكك من كاردو (Cardo) وديكومانوس (Decumanus) فوق المدينة الهلينية مع المسخ الذي يشوّه وجهها. كانت المدينة الرومانية في أنطاكية كما في الإسكندرية ، بخاصياتها وتسمياتها المحددة ، تقع إلى جانب المدينة الهلينستية دون المساس بها (١). أما بأعلى بلاد الرافدين وهي منطقة حدود وساحة للقتال فإنا نلحظ وقوع تخريبات تتلوها إنشاءات على الأسلوب الروماني. فهل أن التصور الروماني للمدينة بصفتها شكلا جسديا سما هنا وهناك إلى مرتبة النموذج القادر على أن يعتمد على نفسه وينتشر خارج الامبراطورية؟ مثلا في بلاد بابل ، وبصورة أوسع في الامبراطورية البارثية؟ ليس في هذا السؤال تمويه كما يظهر لأول وهلة ، نظرا للقرب الزمني ، ولأن الشحناء بين امبراطوريتين لا تستثني المبادلات الحضارية (مثلا : الحمامات التي اقتبسها العرب عن الساسانيين الذين اقتبسوها بدورهم عن العالم الروماني البيزنطي في رأي وليام مارسي) (٢). ولا ننس أن الحيرة التي يسرّ طابعها العربي انتقال المؤثرات الخارجية إلى الكوفة ، لم تكن مرآة للحضارة الفارسية فحسب ، بل انخرطت ضمن خط عربي اتصالي امتد حتى الشام عند الغساسنة ، وهذا الخط كانت التسربات الرومانية البيزنطية فيه أكثر أهمية من المفعول الساساني ذاته ، مما أدى إلى عملية تنصيرية قوية في الحيرة ذاتها.
لا يمكن رد التأثير الروماني في الكوفة إلى المظهر الشعائري للتخطيط ، رغم ما هنالك من تشابه في الشكل ، لأن مصدر هذه التشابهات مورده عندئذ الارث المشترك الغابر ، ارث الشرق القديم الذي نقلته التقاليد الأتروسكية إلى الرومان ، بل بالأحرى يمكن ردّه إلى المعمار. فإذا وافقنا سيفا على أن الصورة الهندسية المعمارية الأولى للمسجد كانت قائمة منذ البداية ، فمن المهم أن ننتبه إلى ما قاله في هذا الموضوع. لقد تحدث عن أعمدة جلبت إمّا من الأهواز وإمّا من الحيرة ، واصفا بالخصوص سقف قاعة الصلاة الذي شبهه بسقف «الكنائس الرومية» (٣). لا شك إنه يمكن تسفيه هذه التوضيحات وردّها إلى عصر لاحق شهد استيعابا أفضل لكلية الارث الشرقي من جانب العرب ، وبذلك تتأخر القضية نصف
__________________
(١).Meulot ,Le monde et son histoire ,I. راجع خارطة أنطاكية.
(٢) Articles et Confe ? rences ,p.٦٦.
(٣) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.