الزّمان الكوني ، الزّمان الخرافي والزّمان التاريخي
مع الإسلام ، كان ظهور التاريخية لدى العرب ، لا بمعنى أنهم راحوا يصنعون واقعا تاريخيا جديدا تكرّسه تورخة جديدة مطلقة ـ تورخة الهجرة ـ وحسب ، بل أيضا بمعنى إقدامهم على زلزلة خيال الماضي التاريخي ، خيال ما يمكن استذكاره وما لا يمكن استذكاره على حد سواء. ففي المقام الأول ، أدخل القرآن الخطاب التاريخي ، لأنّه شاء أن يكون نذيرا وبشيرا. كما أتى ، وعلى مستوى أرفع ، بنظرة زمانية كونيّة ، لأنّه شاء أن يكون تفسيرا لصيرورة الخلق تحت عين الله ورعايته. وبعد خمسين عاما ، سار التراث الإخباريّ العربيّ على الطريق التي رسمها القرآن ، التي كانت بلا ريب ، طريق الذّاكرة القبليّة وما كان بين القبائل ، فأنتج تاريخا أسطوريا كلّما تعلّق الأمر بالأزمنة الخالية ، بالزمان الأصليّ.
إن التراث التاريخي الحديث ، مع ثغراته الكبيرة ، يمكنه وحده الادّعاء بامتلاك زمن تاريخي واقعي ، خاص بالعرب القدامى. زد على ذلك أنّ الزمان الكوني والزماني الخرافي هما اللذان يسودان على الخطاب القرآني وعلى خطاب التراث والسنّة معا. الأمر الذي لا يستبعد التموضع في الأفق التاريخي ، وهو شيء آخر. فقد حاول التراث العربي ، من باب النسابة ، أن يهيمن على الزّمن الغابر وأن يكتشف مبدأ منظّما للواقع المنصرم. بينما حاول الخطاب القرآني ، من طريق الوحي والتنزيل ، الإلمام بالتاريخ العربي ، تاريخ المدن المدمّرة والممالك الزائلة ، ما خلا مكّة ، وهي مدينة أخرى ، تتّصل بالمستوى العالمي والكوني. إلّا أن التراث العربي أضفى بناه الجينيالوجية والخرافيّة على المعطى القرآني الذي طوّر لاحقا كوسمولوجيّته الخاصة بمكّة تطويرا كبيرا. فهنا وهناك ، تدهشنا رؤية الماضي وتفاجئنا بتماسكها وربما لهذا السبب غذّت وأرضت أجيالا بكاملها. وربما أيضا ، بلا ريب ، لأنّ الخرافة قرّبت كثيرا من التاريخي والعقلاني ، فكان ترميزها ضعيفا ، بحيث ظهرت بصعوبة في مظهر الخرافة بالمعنى الدقيق ، الخرافة المتمفصلة بنيويا ، وبدلا من ذلك ظهرت كأنها لغة تاريخية ذات تلوين خرافي.
هذه الملاحظات صحيحة بنحو خاص بالنسبة إلى الماضي العربي السحيق ، ذلك الذي يرقى إلى قرنين أو ثلاثة قرون قبل الإسلام ، ولنقل على سبيل الاستدلال المعياري الخارجي ، إلى ما قبل عهد سابور الأول (٣٢٥) الذي أنشأ الأنبار وقمع الحركات العربية الحدوديّة. وأبعد من ذلك ، نشعر حقا ، في الواقع ، أنّ الزّمان يفقد عمقه الواقعي بالنسبة إلى تراث الإخباريين. وأنّه ينحلّ في الخرافي ويتمسّك بالمقومات القرآنيّة ، محاولا بناء ذاته من خلال النسابة (الجينيالوجيا) وبها. إن التراث العربي غارق في ظلام دامس على صعيد مداره الثقافي الخاص ، لحقبات تبدو لنا مغرقة في القدم ، ونعرفها تماما في حقول تاريخية