غرونباوم (١). وبعد مرور وقت طويل ، وتجاوزا للقرون الثلاثة الأولى حيث تطابقت العروبة مع المدن والدولة والأمبراطورية والدين ، ندرك أن هناك عودا واضحا إلى التطابق بين عرب ـ ولا حتى أعراب ـ وبين الترحل ، كما هو الشأن في مقدمة ابن خلدون (٢). كانت اللغة الاصطلاحية المغربية التي سبقت فترة الاستعمار تقابل بين عربي وبلدي ، علما أن عربي يدل على المترحل أي ذاك الذي يتمثله الذهن رجلا من الريف أي غير المدينة فيقابل به رجل المدن. فباستثناء عصر الفتح والأمصار ، هل كانت المدينة طيلة ما يزيد على ألفي سنة ، على طرفي نقيض مع العروبة؟ ثم لم هذه المداومة بالخصوص على المطابقة بين مفهوم يبدو عرقيا لغويا نعني مفهوم عرب ، وبين نمط عيش الترحل؟
الهوية العربية والترحل والمدينة
لقد عاش العالم الشرقي أكثر من أي مدار آخر ، جدلية قوية بين التحضر والترحل. كان التحضر ذاته منسوبا إلى المدينة الواحة ونموذجها الموجود في بلاد الرافدين. والمحتمل أن المدينة ، في التمثل كما في اللغة ، كانت تحتل الصدارة بالنظر للقرية ، وهو ما يفسر غموض لفظة قرية ، وسنعود إلى توضيح ذلك. إن بلاد الرافدين المركز الممتاز ، ومقر التحضر للمدن والممالك ، كانت تعارض بشدة عالم الحواشي الصحراوية ، عالم الرحل المختلطين بصورة مبهمة ، وكانت تخضع باستمرار لضغط ذلك العالم الذي كانت تدركه من حيث اشتداد تميزه عنها ، نعني الترحل ، دون تمييز عرقي أو لغوي. كان الأشوريون والبابليون يطلقون تسمية «ع ـ ر ـ ب ـ ي ـ و» على كل العناصر المحيطين بهم والذين يتكلمون لغة سامية غربية ، مع العلم أن المحدثين يرون أن «العربية الخالصة» أو عربية الأوائل كانت تتميز من لغات الشمال الغربي الأخرى ، كالأرامية (٣). لكن لماذا هذه التسمية بالذات دون غيرها؟ من المحتمل أن كل الساميين غربا مثلوا في وقت ما ، أي في الألفية الثالثة ، مجموعة واحدة من الشعوب وربما شعبا واحدا ، وحّدته اللغة ونمط العيش في آن ، وقد أدرك في نزاعه مع عالم بلاد الرافدين أن الترحل يحدد هويته أساسا. وبالفعل ، كانت هذه المجموعة البشرية تسمى «ع ـ ر ـ ب ـ أ ـ أ» أو «ع ـ ر ـ ب ـ ي ـ و» كما جاء في الرواية الأكادية. وكانت تسمي هي نفسها باسم مقارب انطلاقا من ذات الجذر (ع ر ب). ولعل الاسم المولد (ع ر ب) Eber ، وIbrim (عبريم) يعني انقلابا حرفيا ، من ع ر ب إلى ع ب ر ، وهو
__________________
(١) Von Grunebaum ,art.cit.,p.٦.
(٢) التاريخ ، طبعة بيروت ١٩٦١ ، ج ١ ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٣.
(٣) في رأي نولدكه ، مثلا :.No ? ldeke ,Art.cit.,