مقدسة محرمة ينتفي عنها العنف إزاء كل ما هو حي فهو أرض سلام مهيأة لاستقبال القبائل للحج والأسواق ، سلام ينقذ مكة من كل عداء حربي. إن الحرم مؤسسة لبلاد العرب بقيت حية حتى عصر الرسول ، وهو ليس مكيا فحسب : فقد جعل الرسول نفسه من يثرب حرما (١) كما أن مسيلمة متنبيء بني حنيفة «ضرب حرما باليمامة» (٢). إنها مؤسسة مرتبطة بدين الوثنية في أعمق مظاهرها ، وفعاليتها واضحة في بروز المدن وحمايتها ونموها طالما هي تبعدها بالذات عن العنف. إنما للحرم المكي وضع ممتاز لأنه متجذر في الزمن الغابر ، وزاده قداسة إجماع كاد يشمل الناس كافة في بلاد العرب ، وقد فخّم قدسيته عنصران متميّزان تمثلا في الحج والبيت.
كانت مكة حقا المدينة العربية بالمعنى الممتاز ، وهي مهد الوثنية والإسلام على السواء ونواة النخبة المقبلة. لكنها كانت أيضا المدينة الاستثنائية التي لا تدانى ، وقد جعل منها التاريخ المدون اللاحق المتأخر ، نموذجا إلهيا يعود إلى الزمن الكوني (٣). حتى أننا نجد شخصا مثل سيف ، وهو الإخباري المتقدم الذي يصف الكوفة في نشأتها فيقول في هذا الصّدد : «وكذلك كانت المساجد ما خلا المسجد الحرام ، فكانوا لا يشبّهون به المساجد تعظيما لحرمته» (٤).
هذا وما من شك في أن اللاشعور الجماعي للنخبة الحاكمة الإسلامية الأولى قد استبطن البنى والأشكال وكل ما حدث قديما سواء في ذلك من تجربتها المكية أو من مقامها فيما بعد بالمدينة. صحيح أن القرشيين كانوا قلة بالكوفة ذاتها لكن المؤسس سعد بن أبي وقاص كان نفسه قرشيا مكي الأصل مهاجرا إلى المدينة كما كان عمر ، المدبر الرئيس لتخطيط الكوفة حسب ما ورد في الروايات. فماذا عسى أن ينعكس من ذلك على الكوفة؟ لقد ورد مثلا أن صحن الكوفة حدّد برمي السهام ونحن هنا نلحظ أن في حياة قريش الجماعية المشحونة بالمقدسات كثيرا ما كان يعتمد على القداح ، وهو رمي شعائري للسهام (٥) وإذا كان القرآن نهى عن ذلك من وجهة المقصد الديني ، فقد استمرّ الفعل كحركة مجرّدة بصفته تقنية لتحديد المجال وقياسه. ولا بد أيضا من التفكير في أن المجال المركزي ذاته ، قد حدّد بهذه
__________________
(١) حراما حسب عبارة السيرة ، ص ٣٤٣ ؛ Serjeant ,art.cit.,p.٠٥ ؛ وقد جعل ناجل من الحرم ظاهرة مؤسساتية انطلقت منها الأمة ،.Nagel ,Art.cit.,p.٠٨١
(٢) الطبري ، ج ٣ ، ص ٢٨٣.
(٣) الأزرقي ، ج ١ ، ص ٣١ وما بعدها.
(٤) الطبري ، ج ٤ ، ص ٤٥.
(٥) الأزرقي ، ج ١ ، ص ١١٧ ـ ١١٩.