الرجل في داره يؤيس من خلاصه ، فكاد ستره أن يهتك ، وكان له جماعة من أبناء الستر يتحمل مؤنها مقيمة لا تنقطع إلى غيره ، فاجتمعوا وكانوا بها ثلاثين رجلا ، وركبوا إلى دار أحمد بن طولون فوقفوا بباب له يعرف بباب الجبل ، واستأذنوا عليه ، فأذن لهم ، فدخلوا إليه وعنده محمّد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وجماعة من أعلام مستوري مصر ، فابتدءوا كلامه بأن قالوا : قد اتفق لنا ، أيد الله الأمير ، من حضوره هذه الجماعة بجلسة ما رجونا أن يكون ذريعة إلى ما نأمله ، ونحن نرغب إلى الأمير في أن يسألها عنا ، ليقف على منازلنا ، فسألهم عنهم ، فقالوا : قد عرضت العدالة على أكثرهم فامتنع منها ، فأمرهم أحمد بن طولون بالجلوس ، فسألهم تعريفه ما قصدوا له ، فقالوا : ليس لنا أن نسأل الأمير مخالفة ما آثره في يوسف بن إبراهيم لأنه أهدى إلى الصواب فيه ، ونحن نسأله أن يقدمنا إلى ما اعتره عليه فيه إن آثر قتله أن يقتلنا ، وإن آثر غير ذلك أن نبلغه بنا وهو في سعة وحل منه. فقال : ولم ذلك؟ فقالوا : لنا ثلاثون سنة ما أمكرنا في اتباع شيء مما احتجنا إليه ، ولا وقفنا بباب غيره ، ونحن والله أيها الأمير نرفض للبقاء بعده ومن السلامة من شيء من المكروه وقع به ، وعجّوا (١) بالبكاء بين يديه.
فقال أحمد بن طولون : بارك الله عليكم ، فقد كافأتم إحسانه ، وجانيتم العامة. ثم قال يوسف بن إبراهيم ، فأحضر ، فقال : خذوا بيد صاحبكم ، وانصرفوا.
فخرجوا معه ، وانصرف بهم إلى منزله.
قال أبو جعفر : وبعث أحمد بن طولون في الساعة التي توفي فيها يوسف بن إبراهيم والدي ... الدار وطالبوا بكتبه ، مقدرين أن يجدوا فيها كتابا من أحد ممن ببغداد ، فحملوا صندوقين ، وقبضوا عليّ وعلى أخي وصاروا بنا إلى داره. فأدخلنا إليه وهو فيها جالس وبين يديه رجل من أشراف الطالبيين ، فأمر بفتح أحد الصندوقين وأدخل خادم يديه فوقع في يده دفتر جراياته على الأشراف وغيرهم ، فأخذ الدفتر بيده وتصفحه وكان جيد الاستخراج ، فوجد اسم الطالبي في الجراية (٢) ، فقال له وأنا أسمع : كانت عليك جراية ليوسف بن إبراهيم؟ فقال
__________________
(١) عج عجّا وعجيجا صاح ورفع صوته. (تاج العروس : عجج).
(٢) الجراية : الجاري من الوظائف ، وجرى له الشيء : دام. ومنه أجريت عليه كذا : أي أدمت. والجراية : الوكالة (انظر تاج العروس : جرى).