يا أمير المؤمنين ، ما يبكيك؟ قال : هشام ، إن في الجسد مضغة إليها يأوي خيره وشره ، فأصلحوا قلوبكم تصلحوا ، فإنه لا عمل لمن لا نية له ، ولا آخر لمن لا خشية له ، وإن أيمن أحدكم وأشأمه لسانه ، فمن حفظ لسانه أراح نفسه ، وسلم المسلمون منه. وإن أقواما صحبوا سلطانهم بغير ما حق عليهم فعاشوا بخلاقهم ، وأكلوا بألسنتهم ، وخلفوا الأمة بالمكر والخيانة والخديعة. ألا وكل ذلك في النار. ألا فلا يقربنا من أولئك أحد ولا سيما خالد بن عبد الله ، وعبد الله بن الأهتم ، فإنهما رجلان بيّنان وبعض البيان يشبه السحر. ألا وإنّ كل راع مسئول عن رعيته ، وكل وزير مأخوذ بجنايته ، ومعروض عليه قوله ، لا إقالة له فيه ، فمن صحبنا بخمس : فأبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، ودلّنا على ما لا نهتدي له من العدل ، وأعاننا على الخير ، وترك ما لا يعنيه ، وأدى الأمانة التي حملها منا ومن جماعة المسلمين فحيهلا به ، ومن كان على غير ذلك ففي غير حل من صحبتنا ، والدخول علينا.
ثم جاء مزاحم فقال (١) : يا أمير المؤمنين ، هذا محمد بن كعب بالباب ، قال : أدخله. فلما دخل ـ وعمر يمسح (٢) عينيه من الدموع ـ قال : ما الذي أبكاك يا أمير المؤمنين؟ قال هشام : فأخبرته الحديث (٣) ، فقال محمد : يا أمير المؤمنين ، إنما الدنيا سوق من الأسواق ، فمنها خرج الناس بما ضرهم ، ومنها خرجوا بما نفعهم ، وكم من قوم قد غرهم مثل الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموت ، فاستوعبهم ، فخرجوا منها ملومين ، لم يأخذوا منها لما أحبوا من الآخرة عدة ، ولا لما كرهوا جنة ، واقتسم ما جمعوا من لا يحمدهم ، وصاروا إلى من لا يعذرهم ، فنحن محقوقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نغبطهم بها أن نخلفهم فيها ، وأن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها أن نكفّ عنها ، فاتق الله يا أمير المؤمنين ، واجعل عقلك (٤) في شيئين : انظر الذي يجب أن يكون معك إذا قدمت على ربك [فقدمه بين يديك ، وانظر الأمر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت على ربك](٥) فابتغ به البدل حيث يوجد البدل ، ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك ، فاتق الله
__________________
(١) الخبر من هنا رواه أبو نعيم في حلية الأولياء ٥ / ٣١٣ في ترجمة عمر بن عبد العزيز.
(٢) في الحلية : فدخل ، ولم يمسح عينيه من الدموع.
(٣) في الحلية : فقال هشام بن مصاد : أبكاه كذا وكذا.
(٤) في الحلية : واجعل قلبك في اثنتين.
(٥) ما بين معكوفتين زيادة عن حلية الأولياء لاقتضاء السياق.