منه ، ومن جعل الإماتتين التي بعد حياة حياة الدنيا والتي بعد حياة القبر لزمه إثبات ثلاث إحياآت ، وهو خلاف ما في القرآن ، إلا أن يتمحل فيجعل إحداها غير معتدّ بها. أو يزعم أن الله تعالى يحييهم في القبور ، وتستمرّ بهم تلك الحياة فلا يموتون بعدها ، ويعدّهم في المستثنين من الصعقة في قوله تعالى (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ). فإن قلت : كيف تسبب هذا لقوله تعالى (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا)؟ قلت : قد أنكروا البعث فكفروا ، وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى ، لأن من لم يخش العاقبة تخرق (١) في المعاصي ، فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّرا عليهم ، علموا بأن الله قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء (مِنْ سَبِيلٍ) قط ، أم اليأس واقع دون ذلك ، فلا خروج ولا سبيل إليه. وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا ، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك ، وهو قوله (ذلِكُمْ) أى ذلكم الذي أنتم فيه ، وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك (٢) به (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد : وقوله (الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) دلالة على الكبرياء والعظمة ، وعلى أن عقاب مثله لا يكون إلا كذلك ، وهو الذي يطابق كبرياءه ويناسب جبروته. وقيل : كأن الحرورية (٣) أخذوا قولهم : لا حكم إلا لله ، من هذا.
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)
__________________
ـ متمكنا من تعيين كل واحدة منهما على سواء ، فإذا عين واحدة منهما بالاختيار نزل عدوله عن الأخرى ، وقد كان متمكنا منها منزلة اختيارها أولا ، ثم الانتقال عنها إلى هذه ، فإذا آل إلى بيع إحداهما بالأخرى غير معلومتى التماثل ، وهو الذي لخصه أصحابنا في قولهم : إن من خير بين شيئين فاختار أحدهما : عد متنقلا ، وقد سبقت هذه القاعدة لغير هذا الغرض فيما تقدم.
(١) قوله «تخرق في المعاصي» في الصحاح : يقال : هو يتخرق في السخاء ، إذا توسع فيه. (ع)
(٢) قال محمود : «أى إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل قط ، أم اليأس واقع دون ذلك ، فلا خروج ولا سبيل إليه ، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط ، وإنما يقولون ذلك تعللا وتحيرا ، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك ، وهو قوله (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) معناه : أن اعتياض السبيل إلى خروجكم من النار سببه كفركم بتوحيد الله تعالى ، وإيمانكم بالاشراك» قال أحمد : وعلى هذا النمط بنى الشعراء مثل قولهم:
هل إلى نجد وصول |
|
وعلى الخيف نزول |
وإنما قصدهم أن هذا أمر غالب فيه اليأس على الطمع.
(٣) قوله «الحرورية» في الصحاح : أنها طائفة من الخوارج تنسب إلى «حرور» اسم قرية ، وكأنه يريد أهل السنة ، فإنهم الذين اشتهر عنهم هذا القول ، خلافا للمعتزلة في قولهم : إن الفعل قد يدرك الحكم قبل ورود الشرع ، كما بين في الأصول. (ع)