أى : لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وفي هذا : أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ، حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعنى : الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوّة وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) منصوب الموضع ، على أنه مفعول له ، وفي متعلقه وجهان ، أحدهما : أن يتعلق بمعنى النهى ، فيكون المعنى : انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم ، أى : لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف ، كقوله تعالى (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) والثاني : أن يتعلق بنفس الفعل ، ويكون المعنى : أنهم نهوا عن الفعل الذي فعلوه لأجل الحبوط ، لأنه لما كان بصدد الأداء إلى الحبوط : جعل كأنه فعل لأجله ، وكأنه العلة والسبب في إيجاده على سبيل التمثيل ، كقوله تعالى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا). فإن قلت : لخص الفرق بين الوجهين. قلت : تلخيصه أن يقدر الفعل في الثاني مضموما إليه المفعول له ، كأنهما شيء واحد (١) ، ثم يصب النهى عليهما جميعا صبا. وفي الأوّل يقدر النهى
__________________
(١) قال محمود : «إنه مفعول له ومتعلقه إما معنى النهى ، كأنه قال : انتهوا كراهية حبوط أعمالكم على حذف مضاف ، كقوله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) وأما نفس الفعل فهو المنهي عنه ، على معنى تنزيل صيرورة الجهر المنهي عنه إلى الحبوط. منزلة جعل الحبوط علة في الجهر على التمثيل ، من وادى (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) قال : وتلخيص الفرق بينهما أنه على الثاني يقدر انضمام المفعول من أجله إلى الفعل الأول ... الخ» قال أحمد : هو يحوم على شرعة وبيئة إياك. ورودها : وذلك أنه يعتقد أن ما دون الكفر ولو كبيرة واحدة تحبط العمل وتوجب الخلود في العذاب المقيم ، وتخرج المؤمن من اسم الايمان ورسمه ، ومعاذ الله من هذا المعتقد ، فعليك بعقيدة أهل السنة الممهدة في مواضع من هذا المجموع ، فجدد العهد بها : وهي اعتقاد أن المؤمن لا يخلد في النار ، وأن الجنة له بوعد الله حتم ولو كانت خطاياه ما دون الشرك أو ما يؤدى إليه كزبد البحر ، وأنه لا تحبط حسنة سيئة طارئة كائنة ما كانت سوى الشرك. والزمخشري اغتنم الفرصة في ظاهر هذه الآية فنزلها على معتقده ووجه ظهورها فيما يدعيه : أن رفع الصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم معصية لا تبلغ الشرك ، وقد أخاف الله عباده من إحباطه الأعمال بها ، ولو كان الإحباط مقطوعا بنفيه : لم تستقم الاخافة به ، وأنى له أن يبلغ من ذلك آماله ، ونظم الكلام يأباه عنده البصر بمعناه ، فنقول : المراد في الآية النهى عن رفع الصوت على الإطلاق ، ومعلوم أن حكم النهي : الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي عليه السلام ، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق ، فورد النهى عما هو مظنة لأذى النبي عليه الصلاة والسلام سواء وجد هذا المعنى أولا ، حماية للذريعة وحسما للمادة ، ثم لما كان هذا المنهي عنه وهو رفع الصوت منقسما إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولا ، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر : لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا ، وخوف أن يقع فيهما هو محبط للعمل ، وهو البالغ حد الإيذاء ، إذ لا دليل ظاهر يميزه ، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان ، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الاشارة بقوله (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) وإلا فلو كان الأمر على ما يعتقده الزمخشري : لم يكن لقوله (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) موقع ، إذ الأمر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا قطعا ، وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة ، على رأيه قطعا ، فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق ، إذا فلا موقع لادعام الكلام بعدم الشعور ، مع أن الإحباط ثابت مطلقا ، والله أعلم وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين كلتا هما صحيحة