من أمر هذه الآية إن لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرنى الله عز وجل. قاله بعد أن اعتزل ، فإذا كافت وقبضت عن الحرب أيديها تركت ، وإذا تولت عمل بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يا ابن أم عبد ، هل تدرى كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمّة؟ قال : الله ورسوله أعلم قال : لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها» (١) ولا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما : إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا ، فالواجب في ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة ، فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي : صير إلى مقاتلتهما ، وإما أن يلتحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما ، وكلتاهما عند أنفسهما محقة ، فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، واطلاعهما على مراشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا من اتباع الحق بعد وضوحه لهما ، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين. وإما أن تكون إحداهما الباغية على الأخرى ، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب ، فإن فعلت أصلح بينهما وبين المبغى عليها بالقسط والعدل ، وفي ذلك تفاصيل : إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها : ضمنت بعد الفيئة ما جنت ، وإن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة ، لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن رحمه الله ، فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت. وأمّا قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها ، فما جنته ضمنته عند الجميع ، فمحمل الإصلاح بالعدل في قوله تعالى (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل ، وعلى قول غيره : وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد ، والذي ذكروا أن الغرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات : ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. فإن قلت : فلم قرن بالإصلاح الثاني العدل دون الأوّل؟ قلت : لأنّ المراد بالاقتتال في أول الآية أن يقتتلا باغيتين معا أو راكبتى شبهة ، وأيتهما كانت ، فالذي يجب على المسلمين أن يأخذوا به في شأنهما : إصلاح ذات البين ، وتسكين الدهماء (٢) بإراءة الحق والمواعظ الشافية ، ونفى الشبهة ، إلا إذا أصرتا ، فحينئذ تجب المقاتلة. وأما الضمان فلا يتجه ، وليس كذلك إذا بغت إحداهما ، فإنّ الضمان متجه على الوجهين المذكورين (وَأَقْسِطُوا) أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين ، والقول فيه مثله في
__________________
(١) أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار والحارث. وابن عدى من رواية كوثر بن حكيم النافع عن نافع عن ابن عمر. وكوثر متروك ، قال فيه أحمد : أحاديثه أباطيل.
(٢) قوله «الدهماء» اى الجماعة. (ع)