يحتمل معنيين : أن يراد : لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات (١) من بعض ؛ وأن تقصد إفادة الشياع ، وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية ، وإنما لم يقل : رجل من رجل ، ولا امرأة من امرأة على التوحيد ، (٢) إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية ، واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه ، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله ، ولا يأتى ما عليه من النهى (٣) والإنكار ، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر ، وكذلك كل من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به ، فيؤدى ذلك ـ وإن أوجده واحد ـ إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما. وقوله تعالى (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر (٤) عن العلة الموجبة لما جاء النهى (٥) عنه ، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء. والمعنى وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرا من الساخر ، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات ، وإنما الذي يزن (٦) عند الله : خلوص الضمائر وتقوى القلوب ، وعلمهم من ذلك بمعزل ، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال ، أو ذا عاهة في بدنه ، أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميرا وأتقى قلبا ممن هو على ضدّ صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله والاستهانة بمن عظمه الله ، ولقد بلغ بالسلف إفراط توقيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرجيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه : خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه (٧). وعن عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا (٨). وفي قراءة عبد الله : عسوا أن يكونوا ، وعسين
__________________
(١) قال محمود : «لم يقل لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات ... الخ» قال أحمد : ولو عرف فقال : لا يسخر المؤمنون بعضهم من بعض : لكانت كل جماعة منهم منهية ضرورة شمول النهى ، ولكن أورد الزمخشري هذا ، وإنما أراد أن في التنكير فائدة : أن كل جماعة منهية على التفصيل في الجماعات والتعرض بالنهى لكل جماعة على الخصوص ، ومع التعريف تحصيل النهي ، لكن لا على التفصيل بل على الشمول ، والنهى على التفصيل أبلغ وأوقع.
(٢) عاد كلامه. قال : «وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة للاشعار ... الخ» قال أحمد : وهو في غاية الحسن لا مزيد عليه.
(٣) قوله «ولا يأتى ما عليه من النهى» أى يتلهى ولا يفعل ما عليه من نهى الساخر والإنكار عليه. (ع)
(٤) قال محمود : «وقوله عسى أن يكونوا خيرا منهم جواب للمستخبر عن علة النهى ... الخ» قال أحمد : وهو من الطراز الأول.
(٥) قوله «لما جاء النهى عنه» لعل ما مصدرية ، ولفظ عنه مزيد من ناسخ الأصل ، أى : لمجيء النهى ، وإلا : أى وإلا يكن مستأنفا. (ع)
(٦) قوله «وإنما الذي يزن عند الله» لعله يزين. (ع)
(٧) لم أره عنه ، وفي ابن أبى شيبة عن أبى موسى من قوله نحوه.
(٨) أخرجه ابن أبى شيبة في الأدب المفرد من رواية إبراهيم عن ابن مسعود بهذا.