هذه الجرائر (١) أن يذكروا بالفسق. وفي قوله (بَعْدَ الْإِيمانِ) ثلاثة أوجه : أحدها استقباح الجمع بين الايمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة (٢). والثاني : أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود : يا يهودى يا فاسق ، فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه ، والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهى عن التنابز. والثالث : أن يجعل من فسق غير مؤمن ، كما تقول للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة : بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)(١٢)
يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه ، وحقيقته : جعله منه في جانب ، فيعدى إلى مفعولين. قال الله عز وجل (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ثم يقال في مطاوعه : اجتنب الشر فتقص المطاوعة مفعولا ، والمأمور باجتنابه هو بعض الظن ، وذلك البعض موصوف بالكثرة : ألا ترى إلى قوله (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)؟ فإن قلت : بين الفصل بين (كَثِيراً) ، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة. قلت : مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية ، وإنّ في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين ، لئلا يجترئ أحد على ظنّ إلا بعد نظر وتأمّل ، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة ، مع استشعار للتقوى والحذر ، ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطا بما يكثر منه دون ما يقل ، ووجب أن يكون كل ظنّ متصف بالكثرة مجتنبا ، وما اتصف منه بالقلة مرخصا في تظننه. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها : أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر : كان حراما واجب الاجتناب ، وذلك إذا كان المظنون
__________________
ـ صرف الذم إلى نفس الفسق ، وهو مستقيم لأن الاسم هو المسمى. ولكن الزمخشري لم يستطع ذلك : انحرافا إلى قاعدة : يصرف الذم إلى ارتفاع ذكر الفسق من المؤمن ، تحوما على أن الاسم التسمية ، ولا شك أن صرف الذم إلى نفس الفسق أولى. وأما الوجه الثاني ، فأدخله ليتم له حمل الاسم على التسمية صريحا. وأما الثالث فليتم له أن الفاسق غير مؤمن ، وكلا القاعدتين مخالف للسنة فاحذرهما ، وبالله التوفيق. ولقد كشف الله لي عن مقاصده ، حتى ما تنقلب له كلمة متحيزة إلى فئة البدعة إلا إذا أدركها الحق فكلمها ، ولله الحمد.
(١) قوله «هذه الجرائر» جمع جريرة ، وهي الجناية. أفاده الصحاح. (ع)
(٢) قوله «بعد الكبرة الصبوة» الكبرة ـ بالفتح ـ : اسم للكبر في السن. والصبوة : الميل إلى الجهل والفتوة. أفاده الصحاح. (ع)