ابنك هذا ، فلما أصبح روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أو من الشيطان؟ فمن ثم سمى يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، فمن ثم سمى يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر. وقيل : إنّ الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال : هو إذن ذبيح الله. فلما ولد وبلغ حد السعى معه قيل له : أوف بنذرك (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) من الرأى على وجه المشاورة. وقرئ : ما ذا ترى (١) ، أى : ما ذا تبصر من رأيك وتبديه. وما ذا ترى ، على البناء للمفعول ، أى : ما ذا تريك نفسك من الرأى (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أى ما تؤمر به ، فحذف الجار كما حذف من قوله :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به (٢)
أو أمرك على إضافة المصدر إلى المفعول ، وتسمية المأمور به أمرا. وقرئ : ما تؤمر به. فإن قلت : لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ قلت : لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته ، ولكن ليعلم ما عنده فيما نزل به من بلاء الله ، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع ، ويأمن عليه الزلل إن صبر وسلم ، وليعلمه حتى يراجع نفسه فيوطنها ويهون عليها ، ويلقى البلاء وهو كالمستأنس به ، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله قبل نزوله : ولأنّ المغافصة (٣) بالذبح مما يستسمج ، وليكون سنة في المشاورة ، فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك. فإن قلت : لم كان ذلك بالمنام دون اليقظة؟ قلت : كما أرى يوسف عليه السلام سجود أبويه وإخوته له في المنام من غير وحى إلى أبيه ، وكما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام في المنام ، وما سوى ذلك من منامات الأنبياء ، وذلك لتقوية الدلالة على كونهم صادقين مصدوقين ، لأنّ الحال إما حال يقظة أو حال منام ، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.
(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)(١١١)
__________________
(١) قوله «وقرئ ما ذا ترى» لعله بضم التاء وكسر الراء ، من أراه يريه ، فليحرر. (ع)
(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٩٠ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٣) قوله «المغافصة» في الصحاح : غافصت الرجل ، أى : أخذته على غرة. (ع)