كقوله تعالى (شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ) لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن ، قال : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) ليدل على عظم منزلته ومكانته (ثَمَ) إشارة إلى الظرف المذكور ، أعنى : عند ذى العرش ، على أنه عند الله مطاع في ملائكته المقرّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه. وقرئ : ثم ، تعظيما للأمانة ، وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة.
(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)(٢٢)
(وَما صاحِبُكُمْ) يعنى : محمدا صلى الله عليه وسلم (بِمَجْنُونٍ) كما تبهته الكفرة (١) ، وناهيك بهذا دليلا على جلالة مكان جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة ، ومباينة منزلته (٢) أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم : إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما ، وقايست بين قوله (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) وبين قوله (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ).
__________________
ـ ثم يعود الكلام على الآية بعد تسليم أن المراد جبريل ، وبعد أن نكله في تعيينه النبي صلى الله عليه وسلم وعده مفضولا إلى الله فنقول : لم يذكر فيها نعت إلا والنبي صلى الله عليه وسلم مثله ، أولها : رسول كريم ، فقد قال في حقه صلى الله عليه وسلم في آخر سورة الحاقة (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وقد قيل أيضا : إن المراد جبريل ، إلا أنه يأباه قوله (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ) وقد وافق الزمخشري على ذلك فيما تقدم ، فهذا أول النعوت وأعظمها. وأما قوله (ذِي قُوَّةٍ) فليس محل الخلاف ، إذ لا نزاع في أن لجبريل عليه السلام فضل القوة الجسمية ومن يقتلع المدائن بريشة من جناحه ، لا مراء في فضل قوته على قوة البشر. وقد قيل هذا في تفسير قوله (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) وقوله (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَ) فقد ثبت طاعة الملائكة أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، ورد أن جبريل عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يقرئك السلام ، وقد أمر ملك الجبال أن يطيعك عند ما آذته قريش فسلم عليه الملك وقال : إن أمرتنى أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت ، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم واحتسب. وأعظم من ذلك وأشرف : مقامه المحمود في الشفاعة الكبرى يوم لا يتقدمه أحد ، إذ يقول الله تعالى له : ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع. وأما أمين فقد قال وهو الصادق المصدوق : والله إنى لأمين في الأرض أمين في السماء ، وحسبك قوله : وما هو على الغيب بظنين. إن قرأته بالظاء فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم أمين على الغيب غير متهم ، وإن قرأته بالضاد رجع إلى الكرم ، فكيف يذهب إلى التفضيل بالنعوت المشتركة بين الفاضل والمفضول سواء ، وما لي مباحثة في أصل المسألة ، ولكن الرد عليه في خطئه على كل قول يتعين ، وإلا فالمسئلة في غير هذا الكتاب. فنسأل الله أن يثبتنا على الايمان به وبملائكته وكتبه ورسله ، وعلى القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وأن يعمر قلوبنا بحبهم ، وأن يجعل توسلنا إليه بهم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(١) قوله «كما تبهته الكفرة» أى تتهمه بما ليس فيه. (ع)
(٢) قوله «ومباينة منزلته ... الخ» يعنى ارتفاع منزلته على منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مبنى على مذهب المعتزلة من تفضيل الملك على البشر. ومذهب أهل السنة : تفضيل رؤساء البشر. وإنما ذكر جبريل بتلك الصفات واقتصر على نفى الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن جبريل مجهول لهم ، بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فاقه صاحبهم ، ولذا اقتصر على نفى ما بهتوه به. (ع)