وكان الامام بذائقته الفطرية الخالصة يدرك دور العقل في الحياة الاجتماعية ، ولديه تصور عريق بتقلبات المناخ الاجتماعي ، ويعرف جيدا توجه السلطان لتسخير الحياة العقلية للسير في ركابه وتلبية رغباته ، فأراد الشعب التمتع بجوهرة العقل ، لتمنعه وتعصمه عن الانزلاق السياسي الذي تجهد السلطات علي احداثه وتوسيع ثغراته ، ومن البديهي أن يفيد قلة من المثقفين والعلماء من هذا الأمداد الطهور ، وتندفع أكثرية القوم نحو السراب.
ومهما يكن من أمر ، فان الاتجاهات السياسية المعقدة قد أذكت شرارة الجذوة الكلامية ، لا حبا بالعلم وتشجيعا له ، بل لتفيد منه في الابقاء علي النفوذ ، واشغال الشعب المسلم عن نفسه بنفسه ، وبمبادئه عن مشكلاته ، وقد مهد هذا التخطيط الي قيام الأشاعرة والمعتزلة والمرجئة والمفوضة ، وساعد علي ظهور الزندقة والمانوية والمزدكية والشعوبية وسواها في افرازات أحدثها البعد السياسي في المناخ العقلي ، وهو ينتقل من دور العلم بالشيء الي دور النقاش ، ومن طور الفهم الي طور المناظرة ، ازاء اثبات هذا الأصل أو دحض ذلك المبدأ ، ومن هنا نشأت الحياة العقلية وهي تتدرج بالتصاعد من البسيط الي المركب ، ومن السهل الي الصعب ، ومن القاعدة الي القمة ، واذا بالأفق الحالم المتزن يتحول الي شعلة نار متلهبة تزيد في حرارة الجو وسعرات الحياة.
ولا أدل علي هذا من نشوء بدعة الارجاء في ظل الحكم الأموي ، واستمراريتها حتي اليوم ، لأن الارجاء قد ابتدع مقالة تعني بمجاراة السلطان ، والابقاء علي عروش الطغاة ، تثبيتا لأنظمة الحكم السائدة ، فالحاكم هو الحاكم المطاع ، ما دام يشهد الشهادتين ليس غير ، لا يغيره فسق ، ولا يعزله اسراف ، وان خاض في دماء المسلمين خوضا ، فأمره الي