وتوهج الذات ، فحقق مبدأ «الغيرية» الذي يعيش فيه القائد الفذ لغيره من الناس لا لنفسه ، وتلك هي التضحية التي ندبت لها شريعة السماء.
لقد كان بامكان الامام أن يغض طرفا عن تجاوزات الحكم العباسي فحسب ، لا أن يجاربه أو يؤيده ، فالحاكم لا يطمح بذلك ، ولو تجاوز الامام ما رسمه لنفسه لعاش في بحبوحة من النعيم ، بين القصور الفارهة والحياة الرغيدة ، ولكنه لم يخلق لهذا قط ، بل انتصب شاخصا ماثلا للمباديء الرسالية التي ترفض كل صيغ المحاباة والاستئثار بحقوق الفرد والأمة ، فكانت المجابهة للاضطهاد والاستبداد تشكل نظرة مستقبلية لارساء مرجعية أهل البيت في اثراء الضمير الانساني بالموقف الصلب ، والمبدأ الثابت ، والحياة الحرة الكريمة ، دونما اراقة دماء بريئة ، أو اثارة معارك عقيمة ، فليكن والحالة هذه هو الضحية لهذا التوجه الناهض ، فما خلق الامام ليريح أو يستريح ، بل ليناضل ما استطاع الي ذلك سبيلا ، وكان تكليفه الشرعي هو الذي يملي عليه طبيعة العمل والتعبير عن الموقف بطرقه الخاصة التي تتفادي الصراع المرير بين الجمهور الأعزل المضطهد ، وبين القوي الفاعلة وهي تتسلح بالجبروت والجيش المدرب ، وبذلك استطاع الامام تحقيق هدفين مهمين في سهم واحد :
الأول : مجابهة التعالي وشريعة الغاب؛ بالقول الصارم ، أو النضال السلبي الهادر ، أو الكلمة النافذة الي الأعماق ، وهي تزلزل عروش الطغاة وكبرياء الجبابرة.
الثاني : الابقاء بحدود كبيرة علي البقية المؤمنة ، دون التفريط بها في خنادق القتال وميادين الحروب المدمرة. فقد رأي الامام ـ علي قلة أنصاره ـ أن القتال لا يحقق له نصرا فعليا ولا مستقبليا ، فعليه أن يسلك بأتباعه بحلم ورؤية ، ويحفزهم باعداد القوة الي الظرف المناسب.